السبت، 5 فبراير 2011

المترجمة حياة شرارة

إعداد
خالد حسين سلطان



الإهداء
الى كل عراقي وطني
له موقف حقيقي مناهض للاحتلال البغيض
لعراقنا الحبيب
أهدي جهدي المتواضع هذا

خالد حسين سلطان

المقدمة
في الأول من آب 1997 انتقلت الى جوار ربها الفقيدة د. حياة شرارة أستاذة الأدب الروسي في جامعة بغداد / كلية الآداب ( ومن ثم كلية اللغات ) في حادث انتحار مأساوي مع ابنتها الشابة مها، والذي كان صدمة شنيعة لكل من عرف الفقيدة او سمع عنها وقرأ لها وكذلك في الأوساط الأدبية والتدريسية وطلابها، وعلمت في حينها عن الوفاة من خلال اللافتة التي علقها طلابها في واجهة مجمع الكليات في باب المعظم، وأثارت تلك الحادثة الكثير من اللغط والتساؤلات ان كانت انتحار فعلا أم هنالك يد خفية للنظام الحاكم في ذلك، وعلى كل حال فالحصيلة كانت ان النظام كان وراء الانتحار سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبعد صدور رواية " إذا الأيام أغسقت " للفقيدة وبمقدمة رائعة بقلم السيدة بلقيس شرارة، أشارت السيدة بلقيس في تلك المقدمة وكتاباتها اللاحقة عن الفقيدة، ان الحادثة كانت انتحار وبدون أي تفاصيل حيث كتبت في الجزء الأخير من تلك المقدمة " .  .  . ولم تعد ترى بصيصا من النور أو الأمل. أحست أنها أمام منعطف الهاوية عندما فقدت الحياة مغزاها وهدفها، ولم يبق أمامها إلا الهرب والتخلص منها وإطفاء جذوتها. فقد وصلت الى الخطوة الأخيرة في مفترق الطريق الحاسم، الفاصل بين الحياة والموت، ووجدت راحة في إنهاء مسيرة الحياة والتخلص منها . " ومع هذا كانت بعض الكتابات التي نشرت حول الفقيدة وخصوصا بعد الاحتلال وسقوط النظام السابق تشير الى إنها كانت عملية تصفية من قبل أجهزة النظام الأمنية، فالبعض اعتبرها عملية إعدام وأدرج اسم الفقيدة وزوجها الطبيب محمد صالح سميسم ضمن قوائم الشهداء الذين أعدمهم النظام والآخر تساءل عن الذي أشعل النار في الفقيدة وابنتيها وهنالك من كتب عن استنشاقها لغاز سام. لذلك كان الأجدر بالسيدة بلقيس أن تخوض في بعض تفاصيل الحادث وخصـــــوصاً ان زينب الابنة الثانية للفقيدة قد نجت من الحادث
وبالتأكيد لديها معلومات دقيقة عن الحادث رغم قسوتها .
وعلى كل حال فان تلك النهاية المأساوية ليست بالغريبة في أوساط المبدعين والعلماء وغيرهم من ذوي النفوس البشرية السامية عند تعرضهم للاستبداد واقتناعهم بعدم قابليتهم تقديم شيء في مجال اختصاصهم ضمن الظروف المحيطة بهم، رغم تناقض تلك النهاية مع التشريعات السماوية. ويبدوا ان الفقيدة من خلال دراستها وأبحاثها في الأدب الروسي تأثرت بالنهاية المفجعة للشاعر والأديب الروسي ماياكوفسكي ( 1893 ــ 1930 ) الذي أطلق النار على قلبه وهو في ريعان شبابه وعطاءه تاركاً وصيته التي جاء فيها " الى الجميع ! أنا أموت, لا تتهموا أحداً، ودعكم من الأقاويل .   .  . " فنقشت تلك النهاية أثرها في ذاكرة حياة كورقة قد تحتاجها يوماً ما، وفعلا لجأت الى تلك الورقة لتعلن ثورتها الصامتة وتنهي  حياتها لتكون تلك النهاية صفعة في وجه الطاغية المستبد .      
تأثرت كثيراً عند قراءة تلك اللافتة المشئومة التي تعلن عن وفاة الفقيدة، وبعد الاحتلال قرأت روايتها " إذا الأيام أغسقت " وتعاطفت مع أحداثها ومعاناة الفقيدة، لذلك أخذت من عنوانها لازمة لي أكررها مع كل ضائقة أمر بها وما أكثرها في زمن الاحتلال البغيض وما رافقه من أحداث وانحرافات غير متوقعة، حتى أخذ أطفالي بسؤالي عن معنى هذا القول " إذا الأيام أغسقت " فوضحته لهم وتكلمت عن الفقيدة وزوجها وابنتيها وما حصل لهم على يد النظام السابق .    
لم التقي بالفقيدة وأنا من جيل طلابها بل كانت هي وزوجها المرحوم محمد صالح سميسم أصدقاء ورفاق لوالدي المرحوم حسين سلطان، وكان الطبيب محمد سميسم طبيب العائلة وأصدقاءها وأقاربها يقدم لهم المشورة والمساعدة في الحالات المرضية سواء في اختصاصه او غير ذلك وخصوصاً خلال فترة عمله في مستشفى الطوارئ في بغداد حيث كنت أحد مراجعيه، وفاءاً لتلك الصـــــــداقة والنبل الإنساني الذي تحمله
الفقيدة وزوجها والإهمال المقصود من المؤسسات الأكاديمية التي عملت فيها وكذلك رفاقها في فترة عملها الحزبي، عملت على جمع ما أحصل عليه من كتابات ومقالات عن الفقيدة ودورها الأدبي والسياسي على أمل نشره كملحق في احدي المجلات الأدبية أو على شكل كتاب مستقل ليكون مرجعاً متواضعاً للمهتمين وبالتأكيد انه لا يحوي إلا جزء مما كتب عن الفقيدة، ولكن هذا ما تمكنت عليه ضمن ظروف الاحتلال البغيض .
عذراً لكل من نشرت مساهمته في كتابنا هذا دون الحصول على موافقته وشفيعي في هذا الاعتذار إننا نعمل في نفس الاتجاه ألا وهو إنصاف إنسانة مبدعة ظلمت في حياتها وبعد مماتها، وخصوصاً كتابات السيدة بلقيس شرارة حيث لم أجد أروع من  السيرة التي كتبتها عن الفقيدة كمقدمة لروايتها " إذا الأيام أغسقت ". لم يصل الى العراق إلا نسخ معدودة من تلك الرواية خلال العهد المباد بالإضافة الى بعض النسخ التي تسربت للقراء بسرية وحذر تام ضمن ما يسمى بثقافة الاستنساخ الشائعة في شارع المتنبي، ومع هذا لا تتوفر تلك الرواية الآن في المكتبات ولا يمكن الحصول عليها بيسر لذلك أدرجت مقدمتها الرائعة كسيرة للفقيدة حياة شرارة وهي في الحقيقة تمثل موجزاً سياسياً وأدبياً لتاريخ العراق الحديث .
ختاماً أتمنى ان أكون وفقت في إنصاف إنسانة ومناضلة ومبدعة
 المجد والخلود للفقيدة حياة شرارة
خالد حسين سلطان
 آذار  2009
سيرة حياة الفقيدة " حياة شرارة "
بقلم : بلقيس شرارة*
مدينة النجف، مدينة غريبة لا تشبه مدن العالم. ربما لا يوجد على شاكلتها إلا مدينة (( بناريس )) في الهند، التي تعيش وتحيا من الأموات.
فالنجف مدينتان، مدينة الموتى ومدينة الأحياء، ويتلاشى الفاصل بينهما أحياناً، ويصبح متشابكاً ومتلاحماً. فمدينة الموتى لا تخلو من الأحياء القادمين من مدينة الأحياء لاستمرار طقوس الدفن. إذ تأتي اليها جنائز الموتى من كل حَدَبٍ وصوبٍ في العالم الإسلامي، وتتعالى الأصوات التي يشوبها الألم والأسى على فقدان الأقرباء والأعزاء، وتضفي أشباح الموتى عليها جواً من الهلع المكبوت والسكينة القدرية.
ومدينة الأحياء لا تخلو من جنائز الموتى التي تقام لها الشعائر في جامع الامام على ليل نهار، وتتقاطر الجنائز صفاً صفاً مرفوعة على أكتاف الأحياء في صحن الجامع بانتظار إقامة الصلاة عليها. فتماس الأحياء والموتى متواصل، حيث تمتزج صلاة الجنازة بأصوات الصبية وضجيجهم، يلعبون في زاوية صحن الجامع الواسع، وبأحاديث النسوة المتلفعات بعباءاتهن حول سماور الشاي. والجامع هو المنفذ والمتنفس الوحيد للصبية والنساء الهاربات من عزلة الدار القاتمة وأزقة المدينة الملتوية المظلمة التي لا ترى أشعة الشمس.
ومدينة الأحياء ملتفة بهالة أسطورية، فهي مطمح أنظار المسلمين من الشيعة، تعج أروقة جوامعها التاريخية بالطلبة القادمين من جنوب لبنان وإيران والهند لانتهال العلوم العربية والإسلامية، يستمعون إليها على شكل حلقات دراسية تحت إرشاد (( علمائها الدينيين )) .وبالرغم من الجو الديني المرادف لمدينة النجف ، هنالك جو آخر ازدهرت فيه نهضة ثقافية واسعة، إذ صدرت عدة صحف و مجلات كان لها دور مهم في الدعوة للإصـــــــــلاح الاجتماعي، كـ (( الهاتف ))و(( الحضارة )) و(( الغري )) و(( البيان ))، وبرز فيها كتاب وشعراء أغنوا تراث العراق الأدبي مثل محمد مهدي الجواهري وعلي الشرقي وجعفر الخليلي وسعد صالح، ومن الجالية اللبنانية ظهر حسين مروة ومحمد شرارة .
وفي هذا الجو الغريب الذي يكتنف المدينة ولدت حياة عام 1935 في حي المدينة القديم .
مّرت والدتي بمعاناة شديدة، عندما ولدت حياة بعد بنتين، وجاء أهل النجف لتعزية والدتي بولادة بنت ثالثة. كان أهل النجف يـــــــعتبرونها (( ثالثة الأثافي )) كناية عن المصائب، وانزعج والدي جداً من زيارات الناس وكلامهم، مما دعاه الى قضاء معظم وقته خارج الدار لتجنب رؤيتهم .
كانت نظرة المجتمع التقليدية للأنثى عندما ولدت حياة، نظرة غير محترمة، وغير مساوية للذكر. ولم تفتأ تلك المجتمعات تتدخل في الأمور الخاصة والشخصية للفرد كأن تدخلها حق مطلق من حقوقها. فتوالت الاقتراحات من كل جانب بتزويج والدي امرأة ثانية تلد له ولداً، وحُمّلت والدتي المسؤولية عن ولادة بنت ثالثة ولم تقع أية مسؤولية على الأب، للجهل المطبق بـ (( بايولوجية الإنجاب )) .وكتب والدنا، محمد شرارة، مقالة في (( الهاتف )) بعنوان (( سهيل ام خلاف آخر )) يدور حول هذا الموضوع، وذكرت حياة رسالة لها عن ذلك عام 1979 :
((يقول أن مريم استُقبلت بالبرود لأنها بنت رغم أنها أول طفل لدينا، أما بلقيس فلم تستقبل بالبرود رغم أنها الثانية وكان الأحرى ان يخلق ولادة طفلة ثانية مثل هذا الموقف. أما أنا فكنت هادئة صامتة في طبعي بعكس بلقيس وكما لو كنت اعرف عدم الرغبة بمجيئي، وكانوا يسموني ( ثالثة الأثافي))).
ترك والدي النجف بعد ولادة حياة بعام، والتــــــــــحق بثانوية الناصرية كمدرس للغة العربية، وشعر (( أن الحياة الجديدة مضنية في جانبها العملي والروحي، تستنزف معظم وقته، وشعر بالغربة والنفور من نظرة المعلمين السطحية ))1.
سافرنا ذلك الصيف الى لبنان. وقضينا عاماً كاملاً مع والدتي، حيث ولدت ولداً، فتعالت التغاريد ووزّعت علب الحلوى، وانهالت التهاني بالطفل الجديد على والدي من جميع أعضاء الأسرتين، آل الزين وآل شرارة، كأن والدي هو المسؤول الوحيد عن مجيء هذا المولود، واجتمع أعضاء أسرة شرارة نساءً ورجالاً، قاضين سهرتهم في البحث عن إيجاد أسم لائق للمولود الجديد، واستعانوا بالقواميس العربية، وبعد أسبوعين من البحث عن أسم يليق بمنزلة المولود الجديد، اختلفوا في تسميته : أحدهم يريد عدنان وآخر قحطان، وسرت النشوة والفرح عندما وافق الجميع على اقتراح جدي في تسميته إبراهيم، وتخلص والدي ووالدتي من التســــمية الشائنة التي لصقت بهما (( أبو البنات، وأم البنات )). ما هو شعور وردود فعل البنات الصغيرات تجاه هذا الاهتمام بالمولود الجديد وبالأخص الصغيرة حياة؟ إن أهمية الذكر وتعظيمه مشكلة اجتماعية، جابهتها المجتمعات وآمنت بها منذ ظهور الزراعة، فنشأ تفضيل الذكر على الأنثى لأنه يؤمن باستمرار اسم العائلة واستيراث الأرض، ولا زالت الأنثى تعاني من وطأة هذا الوضع .
ولكن والدي كان يؤمن بالمساواة التامة بين البنين والبنات، ولم يدع مجالاً لسيطرة عقول مؤمنة بمفاهيم قروسطية، من التدخل في توجيه أبنائه وبناته وتربيتهم .
قبل عودتنا الى العراق بأسابيع، أصيبت حياة بمرض التيفوئيد، واضطرت والدتي لتركها في لبنان مع جدتي .
برزت أمامي عيناها الواسعتان، بنظرات مملوءة بالتوسل بوالدتها، وكأنها تقول : ماما لا تتركيني وتذهـــبين بدوني. لم تكن تستطيع التعبير بالكلام، فلم تبلغ بعد العامين من العمر، عزلت في غرفة لا يقترب منها أحد إلا والدتي، والآن ستتركها في هذه الغرفة وحدها، ظلت عيناها الواسعتان الغائرتان من شدة المرض، تلاحقنا ونحن نتجه نحو السيارة .
مر عامان ولم يتذكر أحد منا حياة غير والدتي، التي كانت تغرورق عيناها بالدموع عندما تتكلم عنها. وعندما عدنا الى لبنان، لم تتعرف حياة على العائلة، ونسيت حتى والدتها، وعندما حاولت والدتي تقبيلها أسرعت وتمسكت برداء جدتي التي أصبحت لها الأم والأب والأخت .
تغيرت ملامح حياة عما تركناها منذ عامين، ببريق عينيها الواسعتين، وشعرها الطويل الكستنائي اللون، وحمرة الصحة التي كست وجنتيها، وكانت طليقة الكلام باللهجة اللبنانية .
عادت معنا بعد ان قضينا الصيف في ربوع لبنان، والتحقت بالروضة بمدينة الحلة. لم تكن تحب الذهاب الى الروضة، فقد رفضت الذهاب إليها مرات عديدة. كانت تعيد نفس الجملة : الأطفال لا يتكلمون اللهجة التي تتكلمها، وتصّر عليهم أن يتكلموا لهجتها .
وأظهرت حياة موهبة أدبية منذ نعومة أظفارها، وأحبت الشعر الحديث وحفظته عن ظهر قلب، وكان لوالدي أثر كبير في ذلك. إذ كان يتلو الشعر ويترنم به، وأصبح ذلك جزءاً من حياتنا اليومية، ورسخ في ذاكرتنا ما كان يترنم به من قصائد. وبالإضافة الى هذا كانت أحاديثه الاعتيادية معنا باللغة الفصحى مما أغنى استيعابنا للغة العربية .
نشأت حياة وترعرعت في هذا الجو الأدبي، وأظهرت موهبة خاصة عندما كانت تقارع والدي بحفظها دواوين شعر كاملة أثناء المساجلة الشعرية التي كانت تشترك بها العائلة .
عندما انتقلنا الى بغداد في منتصف الأربعينات، أصبح بيتنا منتدى وملتقى لكثير من الشعراء والأدباء والمفكرين، وكان يجمعهم في تلك اللقاءات حبهم للأدب والشعر، بالرغم من التباين والاخــتلاف في آرائهم  السياسية. واتخذت تلك اللقاءات طابعاً أسبوعياً .
كانت حياة تجلس دائماً في زاوية من غرفة الضيوف وبين يديها الصغيرتين دفتر تسجّل فيه ما تستمع اليه في تلك اللقاءات الشعرية من قصائد جديدة، ولم نكن ندري أن تلك اللقاءات كانت تمثل بداية (نشأة الشعر الحر). كان الجدل يدور حول تجديد الشعر وجعله حراً بلا قافية. كان الشعراء يقرأون آخر ما نظموه من القصائد، وكانت تلك اللقاءات الأسبوعية هي البذرة الأولى في توجيه حياة أدبياً وسياسياً .
   كان بدر شاكر السباب ولميعة عباس عمارة من المواظبين أسبوعياً على تلك اللقاءات. وشارك بتلك اللقاءات محمد مهدي الجواهري وحسين مروة ونازك الملائكة وأكرم الوتري وبلند الحيدري، ومحسن الأمين. كانت نازك تزورنا معظم الوقت بصحبة والدها صادق الملائكة وأحياناً مع أخيها نزار .
كنا نسكن حي سبع قصور، وكانت دارنا مطلة على نهر دجلة، تحيطها حديقة واسعة، بأشجار قديمة باسقة، وكان المشي على شاطئ دجلة صيفاً من وسائل اللهو والمتعة، فنذرع الشارع رواحاً ومجيئاً، بخطى وئيدة، نستمع خلالها الى الأحاديث المتنوعة الشيقة التي لا تقتصر على الأدب والشعر، وإنما تشتمل على أحداث الساعة وما كان يدور في البلد من مشاكل اجتماعية وسياسية .
وقد أثر علينا نحن البنات بصورة خاصة كل من بدر ولميعة ونازك أكثر من الآخرين، لمعرفتنا بهم عن قرب .كان بدر ثائراً على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وبالرغم من انتمائه الى عائلة ميسورة، قرر تركها عندما أصبح عضواً بالحزب الشيوعي. وتجلت تلك النزعة الثورية في بعض القصائد التي نظمها في تـلك الفترة. كان نحيل الجسد، أسمر اللون، له أذنان كبيرتان، بارزتان أكثر عن المألوف، مع أنف كبير، وعينين صغيرتين، وشفتين بارزتين، لنتوء في أسنانه. فليس هنالك أي شيئ جميل في محياه. كان ذا حـــــــس مرهف،
يتنازعه القلق الدائم، يحب ويعشق كل ما هو جميل حوله. فالطبيعة الجميلة والمرأة الحسناء، كان لهما دور كبير، وقد عانى بدر من الإحباط المتواصل من المرأة. وكثيراً ما كان يقع في غرام امرأة حالماً بتعرّف عليها، ولكم نظم القصائد بمثل هاتيك النساء، وكم ذمهن بقصائد أخرى عندما لا يجد استجابة منهن. وكان خجولاً الى درجة مفرطة .
إن معرفته وإلمامه الواسع بالأدب العربي والانكليزي، ميّزه عن شعراء عصره، الذين لا يملكون في  معظمهم هذه المعرفة، لذا جاءت صوره الشعرية منوّعة وعميقة، حية تنبض بالحياة. كان بدر مؤمناً بخلاص الإنسانية المعّذبة، وأثرت به تجربته السياسية والتزامه بالاشتراكية، لينتهي شاعراً متمرداً، حرّ التفكير، لم يتقيد بقصائده بالمفاهيم السائدة في صياغتها، وأصبح من قادة التجديد في الشعر الحديث في العالم العربي .كان يميل في تلك الفترة الى الشاعرة لميعة عباس عمارة، زميلته في دار المعلمين العالية. وقد نظم فيها عدداً من القصائد .
كان مفتوناً بلميعة ومتيماً بحبها، وما كان يقرؤه من قصائد في تلك اللقاءات، كان موجهاً لها، وكانت هي تعرف كيف تثير عواطفه حين ترمقه بنظراتها الساحرة، التي تخفي عشرات المعاني. كانت علاقة بدر بلميعة علاقة حب مفضوحة، بعيدة عن التكتم .
اما لميعة فكانت تجمع ذكاء الروح وجمال الجسد. طويلة القامة، نحيفة، ذات عينين جميلتين واسعتين سوداوين، وشعر فاحم. وبالرغم من أنها كانت ترتدي دائماً فستاناً أسود اللون، كانت تتألق نضارةً وحيويةً وشباباً. كانت نقيض بدر، فهي محدثة بارعة، ذات نكتة لاذعة. وعندما كانت تلقي قصيدة من قصائدها، فإنها تتكلم لغة الجسد، فتتغنج وتتمايل وتذوب مع الكلمات ومعانيها التي تصدر من بين شفتيها، فيرتفع صوتها تارة وينخفض تارة أخرى، فكانت تشرك كل حاسة من حواسها عند الإلقاء. جمعت بشخصيتها العذبة وأســـــــلوبها الجذاب في قراءة الشعر
سحراً كان يخيم على الحاضرين في تلك اللقاءات. كانت قصائد لميعة قصيرة ورقيقة في مضمونها، وكان الحب هو الموضوع الرئيسي لتلك القصائد .
اما نازك فكانت تختلف تماماً عن لميعة، لم تكن جميلة أو جذابة كلميعة، بل كانت قصيرة القامة، مملوءة الجسد، بسيطة المظهر، قليلة الكلام، وإن تكلمت فبصوت هادئ لا ترفعه إلا عندما تقرأ إحدى قصائدها. كان الحزن يغلب على محياها، وكانت نظرتها للحياة نظرة مأساوية، وانعكست تلك النظرة في قصائدها. ولكنها كانت واسعة الاطلاع، مرهفة الإحساس، ذات ثقافة أدبية عميقة، وهي تتقن اللغة الانكليزية والعربية واللاتينية والفرنسية .
حفظت حياة معظم شعر بدر ولميعة ونازك، وكانت تترنم بقصائدهم وهي لم تبلغ بعد سن الثانية عشرة .بالإضافة الى اللقاءات الشعرية والأدبية، ثمة لقاءات يؤمها خليط آخر من المثقفين والمفكرين اليساريين، كالشاعر كاظم السماوي وجاسم الرجب وأساتذة من مدرسة شماس ودار المعلمين الريفية .
كان عام 1948، عاماً مضطرباً، مملوءاً بالمآسي، وقد شمل الغليان معظم البلدان العربية، لخسارتهم فلسطين في حربهم مع اليهود. وكانت تلك الخسارة بعد ولادة دولة إسرائيل، بقرار من هيئة الأمم المتحدة، بمثابة كارثة على العرب، ولم يكن الفكر العربي متهيئاً لها يومذاك، وما زالت أصداؤها سارية بعد خمسين عاماً .
خرجت المظاهرات في شوارع بغداد، تطالب بسقوط الصهيونية، وشملت جميع المدارس في العاصمة، بما فيها المدارس المتوسطة والثانوية، ولكن لم يسمح للمدارس الابتدائية بالمشاركة فيها، وتألمت حياة عندما عدنا من المظاهرة المنظمة من قبل الحكومة نَقصّ عليها ما حدث، وتمنيت لو سُمح لمدرستها الابتدائية بالمشاركة أيضاً .
كان ذلك العام، عام 1948، من الأعوام الصاخبة التي مــرّت في تاريخ
العراق الحديث، فقد وُقّعت ( معاهدة بورتسموث )، من قبل السلطة، التي كان رئيس وزرائها صالح جبر، واعترضت الأحزاب المعارضة على تلك المعاهدة، واعتبرتها جائرة ومجحفة بحق العراق، وشجبتها .
انتقلت المقاومة لتلك المعاهدة الى الشارع. وبدأت المظاهرات التي تخللتها الخطابات الحماسية والقصائد الملتهبة والهتافات الرنانة، وتزايدت المقاومة يوماً بعد يوم، حتى أمرت الشرطة بفتح النار على المتظاهرين، فسقط خلالها عدد من القتلى قرب جسر ( مود ) عندما كان المتظاهرون متجهين نحو السفارة البريطانية، والتهب الوضع عندما علم أن من بين القتلى الذين سقطوا مضرجين بدمائهم جعفر الجواهري، شقيق الشاعر المشهور محمد مهدي الجواهري، فنظم في تأبينه قصيدته المشهورة التي ترددت كنشيد شعبي على فم كل عراقي ومن بينهم حياة، ومطلعها :

أتعلم أم أنت لا تعلم         بأن جراح الضحايا فمُ
تراجعت السلطة عندئذ عن إبرام المعاهدة، وسقطت حكومة صالح. وهدأ الشارع، وتحول الى لافتات يرفعها المشيّعون للضحايا الذين سقطوا برصاص السلطة .
وأطل عام 1949، وصادفت الذكرى الأولى للوثبة التي أسقطت معاهدة ( بورتسموث ) فأعلنت الأحكام العرفية، وبدأت حملة اعتقالات واسعة في العراق، لم يشهد لهل مثيلاً منذ حركة رشيد عالي الكيلاني. فحُلت الأحزاب وعطلت الصحف عن الصدور، واعتقل عدد كبير من مفكري وسياسي العراق، وكان والدي وعمي مرتضى ممن شملهم الاعتقال .
كنا نسكن في حي الكرادة الشرقية، في دارنا المطلة على نهر دجلة. عندما داهمت الشرطة دارنا ليلاً، وفتشت جميع الغرف، ونثرت الكتب وأوراق والدي، التي غطت أرض الغرفة، وصودر عدد كبير من كتبه وأوراقه، وشملت المصادرة حتى الصور التي التقطت لنا ولرفيقاتنا في المدرسة أثناء تشييع الذين سقطوا خـــــــلال المظاهرات. وانقلب عالمنا المشرق رأساً على عقب. وانطفأت جذوته وأصبح عالماً مثقلاً بالهموم، لا ندري ما يحمل في طياته من مفاجئات .
اختفى والدي وعمي مرتضى مع الكتب والأوراق التي صودرت، واعتقلا في معتقل (( أبو غريب )). كان المعتقل يزخر بالمفكرين اليساريين، من أمثال الشاعر بدر شاكر السياب والشاعر محمد مهدي الجواهري، مع رجال الأحزاب المعارضة ورؤسائها، وطلبة الكليات .
حزنا على والدي وعمي، وشعرنا بالفراغ الذي أحدثه اعتقالهما .
كانت والدتي تبعث لهما يومياً الطعام بـ (( زنبيل )) ــ وهي سلة مصنوعة من خوص النخيل ــ مغطى بمنديل أبيض، ويعاد الزنبيل بالمنديل الأبيض الذي يغطي ملابس والدي وعمي لغسلها، كانت والدتي تفتشها بحثاً عن قصاصات الورق التي تعطينا نزراً ضئيلاً عن حالتهما. وانطبعت حالة والدي وعمي في ذاكرة حـــــــياة وأبرزتها في روايتها (( وميض برق بعيد )) التي لم تنشر بعد :
((حدثتني عن فزعها عندما طرق الباب في الساعة الثانية ليلاً، وكان الجميع يغطون في نوم عميق، فاضطرت هي الى النهوض من سريرها وفتحه، متصورة أن أحد الجيران قد وقع له مكروه، وأتى يطلب مساعدتهم. غير أنها فوجئت بشرطيين يقفان أمامها ويسألناها عن أخــيها [ أحمد ] طالبين منها ان تناديه. ارتبكت ولم تعرف ماذا تفعل، وظلت جامدة في مكانها تتطلع إليهما بذهول حتى طلبا منها بصوت عال صارم أن تذهب وتستدعيه. أبقت الباب مفتوحاً ومشت وكأنها ترى كابوساً في نومها. دخلت غرفة [ أحمد ] وأيقظته بصوت مرتجف وأخبرته بوجود الشرطيين في الخارج. فزّ من فراشه في الحال وبقفزة واحدة أصبح عند خزانة الملابس وأخذ يرتدي ثيابه على عجل .   .   . أيقظت في تلك الأثناء جميع أفراد عائلتها ما عدا أمها التي استيقظت من تلقاء نفسها على أصوات الضوضاء والحركة غير الاعتيادية فيما حولها. تعالى عـــــويل أمه وأخواته وشهقاتهم، وبان الوجوم على وجوه
أخوانه. بقيت هند مع أبيها رابطة الجأش، وخرجا معاً الى الشارع، ووقفا يراقبان [ أحمد ]ٍٍٍٍٍٍٍٍٍ وهو يسير وسط الشرطيين، اللذين وضعا قيداً حديدياً في يديه، حتى توارى بعيداً مع معتقيليه وتحولوا الى أطياف تشق سكينة الليل بوقع أصوات أحذيتهم الثقيلة. كانت تلك الأصوات هي الدليل الوحيد على حقيقة وجودهم بعدما تحولت هيئاتهم الداكنة الى جزء من أثير ذلك الليل المظلم وتلاشوا في جوفه تماماً عندما انعطفوا الى جهة اليمين واختفوا من مجال الرؤية، خفتت أصوات أحذيتهم واندمجت في همهمات الليل المبهمة. بقيت هي وأبوها وحدهما في الشارع لا يصدقان ما حدث ويتصوراه جزءاً من غموض الظلام وأسراره المحيطة بهما، ثم دخلا البيت وأغلقا الباب وعّبر وجههما عن ألم أخرس عظيم )).2
 توقفت اللقاءات الأدبية الأسبوعية، وذلك لأن عدداً من الذين كانوا يلتقون في دارنا تعرضوا الى قسط من الاضطهاد. فقد أسقطت السلطة الجنسية العراقية عن حسين مروة وعائلته، كانت تلك ضربة قوية سددت لعائلتنا وشعرنا بالخسارة بإسقاط جنسية آل مروة، وكأن عضواً مهماً بُتر من جسد عائلتنا، إذ كنا عائلة واحدة، فإن غضبت العائلة على أحد أبنائها، كانت العائلة الأخرى تحتضنه .
كان الشاعر محمد مهدي الجواهري يتردد على دارنا بعد أن أطلق سراحه من المعتقل، وزارنا ذات ليلة، قرأ لنا قصيدة عن فتاة فرنسية اسمها (( أنيت )) كتبها على ورق لف السكائر الخفيف عندما كان معتقلاً في سجن أبو غريب. وللجواهري أسلوبه الخاص في قراءة الشعر، كان يعيد البيت الواحد ببطء مرتين قبل أن ينتقل الى البيت الثاني، وكانت حياة بدورها قد حفظت البيت فتعيده معه. وقد كتبت عن نفســــها تقول (( كنت أحفظ القصائد التي تلقى في الندوة بشغف وسرعة، ولذلك استطعت أن أتذكر بعض أشعار السياب التي لم تنشر، والقصائد التي غيّر عناوينها أو الحادثة والسنة التي نظمت بها )).3
أضطر والدي بعد أن خسر وظيفته، الى مشاركة أحد الأصدقاء في فتح مخزن، وكان نوع العمل شاقاً على والدي وهو غير معتاد عليه، واستغرق معظم وقته، كان مرهقاً جسدياً وفكرياً، يخرج من الصباح الباكر ولا يعود قبل العاشرة ليلاً. تغيرت أحاديثه عن الأدب والسياسة الى أحاديث غريبة عنه تماماً. كاكتشاف أسرار ترويب اللبن ونجاح تلك العملية التي تستغرق طول الليل، ليعرف في الصباح مدى نجاحها. بعد عام من العمل المتواصل المضني ترك المخزن، وخسر حتى الإكرامية التي حصل عليها بعد فصله من الوظيفة .
ولم تقتصر المعاناة على والدي وإنما شملت جميع أعضاء الأسرة بمن فيهم والدتي، التي لم تكن مقتنعة وراضية عن اتجاه والدي السياسي .
كانت والدتي جميلة الوجه، مربوعة القامة، تميل الى البدانة، بسيطة في نظرتها للأمور، متدينة، تقوم بفروض الصلاة والصوم، مستقيمة الأخلاق، مخلصة في أداء واجباتها العائلية لدرجة إنكار الذات، ربّت جميع أولادها على الصدق والتضحية وتحمل المسؤولية منذ نعومة أظافرها، ظلت تتكلم اللهجة اللبنانية، ولم تستطيع تعلم اللهجة العراقية طول حياتها. وبالرغم من الفجوة الفكرية العميقة بين والدي ووالدتي منذ زواجهما ومعارضتها للعمل السياسي الذي انخرط فيه أبي، فقد وجدت نفسها مضطرة في كثير من الأحيان لرهن مجوهراتها أو بيع قطعة أرض من الأراضي التي تملكها في لبنان، لكي تستطيع إعالة العائلة بالطريقة التي تعهدها .
أما عمي (( مرتضى )) فقد اشتغل محرراً ليلاً في احدى الصحف المحلية، ليتمم دراسته في كلية الحقوق صباحاً. كان لا يعود قبل منتصف الليل، مرهقاً منهكاً من عمله المتعب، ولم يعد ذلك العم المرح الذي يقضي جزءاً من وقته الثمين معنا بتوجيهنا والإشراف على تعليمنا وقراءة القصص لنا .
موضوعات الكتاب
الفهرس
الإهداء   ................................................................   3
صورة الفقيدة " حياة شرارة "   .......................................   5
المقدمة   ................................................................   7
سيرة حياة الفقيدة  "حياة شرارة " / بلقيس شرارة   ...............   10 
و " إذا الأيام أغسقت " فلا تنسوا " حياة شرارة "
شعر / محمود حمد   .................................................   74 
حياة شرارة سيرة حافلة بالعطاء الإبداعي والإنساني
جمال كريم   ..........................................................   77  
د.حياة شرارة في : نصوص مزدوجة في السيرة والسيرة الذاتية
نادية غازي   .........................................................   84
الغروب الأخير على شفق المدينة / شعر / فاروق سلوم   ........   93
بمناسبة مرور عشر سنوات على انتحار الكاتبة وأستاذة
الأدب الروسي في كلية اللغات ــ جامعة بغداد الدكتورة
حياة شرارة وابنتها مها / بلقيس شرارة   ...........................   97
فرادة في الإبداع وتعدّد في النوع / نبيل العطية   ................   101
من أشعل النار فيها / سميرة الوردي   ...........................   104
إذا الأيام أغسقت / قراءة معد فياض   ............................   106
إذا الأيام أغسقت وإذا الأحلام تبعثرت / تركي الحمد   ..........   114
إذا الأيام أغسقت / قراءة محمد الأحمد   .........................   120
إذا الأيام أغسقت : رواية هواء الخوف العراقي     
مراجعة للرواية / بلقيس شرارة   .................................   124
قالوا في حياة شرارة   .............................................   134
آل شرارة   .........................................................   137
الفهرس   ...........................................................   138 


الجمعة، 4 فبراير 2011

موعد في بخارى !

ترجمة كاظم العلي

طلب تاجر من خادمه أن يذهب إلى السوق ليشتري له بعض القطع من القماش. و عند وصوله إلى السوق، رأى الخادم موته يتسوق من المحل القريب منه، فركض مرعوبا إلى بيت سيده و قال له و هو يكاد يبكي " علي أن أغادر الآن فقد رأيت موتي هذا الصباح في السوق و علي أن أهرب. سأذهب إلى قريتي بخارى لأقضي نهاية الأسبوع هناك". قبل التاجر طلب خادمه لكنه كان قلقا فقرر أن يذهب إلى لسوق حيث عثر على موت خادمه فقال التاجر "لقد أرعبت خادمي"، فأجاب الموت "وهو أرعبني أيضا ، فلم أتوقع أبدا أن ألتقيه هنا حيث أن لدي موعد معه في بخارى!"

من قصة قصيرة لجون أوهارا

عن موقع الروائي البرازيلي العظيم باولو كويلو على الفيسبوك

الأربعاء، 2 فبراير 2011

الترجمة ما بعد الاستعمارية: نظرية و تطبيق / الجزء الثالث

مقدمة عن المستعمرات و أكلة لحوم البشر و اللغات المحلية  الجزء الثالث
سوزان باسنيت و هاريش ترايفيدي
ترجمة كاظم العلي

تعنى المساهمات في هذا الكتاب بطرق مختلفة بنظرية الترجمة و ممارستها في سياق ما بعد استعماري. تقترح ماريا تايموزكو Maria Tymoczko   في فصلها الموسوم " الكتابة ما بعد الاستعمارية و الترجمة الأدبية" [1] أن هناك تشابهات قوية بين هذين النوعين من الإنتاج النصي.فكلا النوعين يهتمان بنقل العناصر من ثقافة لأخرى، و كلاهما يتأثر بعملية النقل ، و من هنا فإنه ليس من المدهش أن العديد من الكتاب ما بعد استعماريين اختاروا استعمال المصطلح "ترجمة" بصورة مجازية. و تركز تايموزكو على الطريقة التي اختار بها كتاب أفارقة مثل نغوغاي وا ثيونغو   Ngaugai   wa Thiong’o  [2] بوعي استيراد مفردات افريقية في  كتاباتهم و الذي يشكل تنويعات في اللغة القياسية و يضيء تنوع النص.و توضح أننا عادة ما نقوم في دراسات الترجمة بعمل  تمييز بين سحب الجمهور إلى النص أو سحب النص إلى الجمهور ، و تجادل أن نفس التمييز ينطبق على الكتابة ما بعد استعمارية.فعن طريق تغريب  defamiliarization  اللغة يستطيع الكتاب ما بعد استعماريين وضع القراء وجها لوجه مع واقعية الاختلاف و يساءلوا سيادة اللغة القياسية.
و بصورة مماثلة يتناول جي جي في براساد حال الرواية الهندية الإنكليزية مبتدئا بوجهات نظر الروائي راجا راو Raja Rao  [3] الذي يرى فعل الكتابة نضالا من أجل  فضاء يخلقه تحويل النص الهندي و السياق و اللغة الإنكليزية. و يوضح أن الكتاب الهنود الذين يكتبون بالإنكليزية لا يترجمون كثيرا النصوص باللغة الهندية بل يستعملون إستراتيجيات لجعل أعمالهم تبدو كترجمات. و تجعل هذه "التكثيفية" أو التغريبية الواعية للإنكليزية فعل القراءة أكثر صعوبة ، لكنها تبين بوضوح حق الكتاب الهنود لترجمة اللغة لأغراضهم الخاصة. و تنتج شبكة معقدة من الترجمات، و يتم افتتاح فضاء جديد تصبح فيه التعددية اللغوية عرفاً.
تجادل شيري سايمون في فصلها الموسوم "الترجمة و الخلق اللغوي الضمني في منطقة الاتصال: الكتابة الحدودية في الكيبيك" أن التعددية اللغوية تفضي إلى  تفتيت الضدية الثنائية بين الأصل و الترجمة. و بإتباعها خطى ماري لويز برات Mary Louise Pratt   [4]  تستعمل سايمون مفهوم "منطقة الاتصال"   contact zone ، أي المكان الذي تلتقي فيه الثقافات المنفصلة سابقا.و منطقة الاتصال الذي هو تقليديا المكان الذي التقت فيه الثقافات على أسس غير متكافئة هو الآن فضاء يعيد تعريف نفسه ، و هو فضاء للتعددية و التبادل و إعادة التفاوض و  الانقطاعات .و تنظر سايمون في أعمال ثلاثة كتاب من الكيبيك هم جاك برولت  Jacque Brault    و نيكول بروسارد Nicole Brossard  و دانييل غاغنون    Daniel Gagnon  موضحة كيف يلعب هؤلاء الكتاب بعلاقات اللغة بطرق مبتكرة إلى حد كبير.و عمل هؤلاء الكتاب، مثلما تزعم، عملا تحريضيا بصورة مقصودة وواعية و يمحو حدود الهوية الثقافية و الكتابة ضد تراث ثقافي كان مثلما تصفه " متشككا بصورة عميقة عن عمل الترجمة ". و توضح سايمون أيضا أن العديد من الكتاب ، من جيمس جويس             [5] James Joyce و صامويل بيكيت     Samuel            [6]  Beckettإلى سلمان رشدي و ديريك والكوت Derek Walcott   [7] ، يزعمون أنهم " لا يشعرون في بيوتهم " أبدا في أية لغة.و لا تقدم الثقافة و لا اللغة في عالم اليوم نفسيهما على أنهما قوتين موحدتين ، مشتركتين بعالم من الإشارات. و توحي سايمون أن الفهم المعاصر للترجمة بوصفها واقعا و مثلا أعلى له صلة كبيرة بالانقطاع و الاحتكاك و التعددية.
و يتبنى اندريه لوفيفر خطوطا مشابهة من الجدال في فصـــله [8]  الذي يفــترض فــيه مفــهوم " شبكة مفاهيمية  conceptual grid " و " شبكة نصية textual grid " يشكلان الأساس لجميع أنواع الكتابة. و ينهل هذان المفهومان ، اللذان يراهما لوفيفر على انهما مترابطان بصورة غير قابلة للانفصام ، من التقاليد الثقافية و الأدبية لزمن معين.فالملحمة على سبيل المثال و التي كانت في يوم ما الشكل الأدبي العظيم للثقافات الأوربية توقفت فعليا عن الوجود و أصبحت غريبة و بعيدة بالنسبة للقراء المعاصرين. و يتوجب على أي مترجم يرغب بترجمة ملحمة ، على هذا الأساس ، أن يتعامل مع حقيقة ان هذا الشكل غريب على القراء حتى و إن كانوا على وعي بمغزاه التاريخي.  و بالضد من ذلك، فشكل كشكل القصيدة العربية الذي ليس له سابقة في الآداب الغربية قد يمنع مقاومة القارئ بصورة فعالة ترجمته كلية. و يجادل لوفيفر أن المترجمين يحتاجون إلى أن يحفظوا في أذهانهم  مجموعة مزدوجة من الشبكات المفاهيمية و النصية ، في أنظمة الأصل و الهدف، لكنه يوضح أيضا ان الثقافات الغربية "تترجم" الثقافات غير الغربية إلى أصناف غربية فارضة شبكاتها الخاصة . و لتجسيد نقاشه، يتأمل في ثلاثة نصوص هولندية مكتوبة بين 1740 و 1820 تشكل فكرة عن الهند الهولندية (التي تعرف بإندونيسيا الآن) للقراء الهولنديين خصوصا. و هذه النصوص هي نصوص أنتجت في سياق استعماري ، للاستهلاك المحلي، و يبين لوفيفر كيف استعمل الكتاب الثلاثة ، بطرق مختلفة، أشكالا تعزز وجهات نظرهم للمشروع الاستعماري الهولندي.
و تنقلنا أيلس فييرا من ملاحم الاستعمارية إلى المشروع الوحوشي للقرن العشرين في فصلها عن المترجم البرازيلي هارولدو دو كامبوس . تنبه فييرا إلى غزارة المجازات التي استعملها كامبوس ليعرف ما يدركه على انه نوع جديد من الترجمة ما بعد استعمارية : " الترجمة بتصرف  transcreation " ، و " النقل الشيطاني     transluciferation"، و "النقل التنويري transilumination  "  و " النقل النصي            transtextualization  " ، بل و "إعادة التوزيع الشعري poetic reorchestration  " و " إعادة التخيل reimagination  " المهمة بصورة عميقة. إن ممارسة دو كامبوس الترجمية ، المتطرفة مثل نظريته، تنبع من النية المقصودة لتعريف شعرية ترجمية ما بعد استعمارية. فالترجمة، مثلما يقول دو كامبوس، شكل من أشكال قتل الأب ، أي رفض مقصود لتكرار ما تم تقديمه مسبقا على انه الأصل. و تنظر فييرا في أهمية مجاز الوحوشية في برازيل القرن العشرين كانفصال عن الحقيقة المونولوجية (الاستعمارية ) و شكل من أشكال التغذية.فالترجمة ، كما تزعم ، تقطع التدفقات الخطية و هرميات القوة و تزعزع مركزية اللوغوس logocentrism  .
و القوة المزعزعة للترجمة هي أيضا موضوع فصل فني ضاروادكر حول نظرية الترجمة  و ممارستها لدى أي كي رامانوجان إذ يتفحص ضاروادكر عمل المترجم الهندي العظيم مبينا كيف عبر رامانوجان عن فكرة أن واجب المترجم هي أن "يترجم" القارئ الأجنبي إلى قارئ محلي ، و يجادل ان عمل ضاروادكر يبين بفعالية المركزية الأوربية لنظريات فالتر بنجامين Walter Benjamin [9] و جاك دريدا  Derrida    [10] عن الترجمة من خلال تقديم شعرية ترجمية هندية بديلة.و يدافع في الجزء الثاني من فصله عن رامانوجان ضد منتقديه قاصدا أن يبين أنه لم يكن مترجما استعماريا كما تم الإيحاء بذلك.
إن الحالة المضادة للنماذج الأوربية هي أيضا فكرة فصل روزماري اروجو Rosemary Arrojo [11] حول نسخ هيلين شيشو Helen Cixous   لعمل كلاريس لسبيكتر   [12] Clarice Lispector . و على الرغم من إدراك أن لدى شيشو عاطفة حقيقية إزاء كتابة لسبيكتر ، تجادل اروجو ان شيشو تستعمل هذا كوسيلة لمواءمة عمل لسبيكتر لخدمة أهدافها. لقد أُدرِكَ اكتشاف شيشو للسبيكتر ، مثلما هي توضح ، على انه قلب للمواجهات الاستعمارية الأبوية التقليدية إذ تعبد كاتبة أوربية عمل أمرآة من قارة مستعمرة.غير إن اروجو تقترح ان نتيجة هذه العلاقة هي مجرد تعزيز للنموذج الاستعماري ، حيث تكون شيشو  في الموقع المهيمن متجاهلة  و مهينة بل و مدمرة  بقصد  أفكار لسبيكتر الشخصية. جوهريا ، فإن اروجو تؤمن أن  شيشو لا تقوم بأكثر من تكرار نموذج الأبوية الذكورية القمعية التي تزعم معارضتها.
و تتعاون فانمالا فسوانثا و شيري سايمون ، اللتان بدأتا من مواقع مختلفة جدا، في فصل معنون بتميز "تغيير محلات التبادل" ، و توضحان أن الترجمة في بلديهما ، الهند و كندا، مؤشر حساس على  التوتر الثقافي على نحو خاص. و توحي الكاتبتان أن الممارسة الترجمية مؤسسة ضمن مجموعة من الافتراضات حول الطرق التي تحمل بها الأشكال اللغوية المعاني الثقافية – و باختصار ، في نظرية ضمنية للثقافة.  إن المنظور ما بعد استعماري يؤكد العلاقات غير المنتظمة بين الثقافات التي يمكن رؤيتها أيضا في ترجمة النصوص الأدبية.
إن فهم تعقيدات النقل النصي عبر الترجمة له أهمية خاصة في زمننا الحاضر لأن التعددية اللغوية، و التفاعلات الثقافية التي تنطوي عليها، هي العرف بالنسبة للملايين في العالم. و اللغات الأوربية ، التي كانت تُدرك على انها لغات متفوقة لأنها كانت لغات الأسياد الاستعماريين، تتفاعل الآن مع مئات اللغات التي كانت مهمشة سابقا أو مُتجاهَلة كلية.لقد كانت الترجمة في صميم اللقاء الاستعماري ، و استعملت في جميع أنواع الطرق لتأسيس و نشر فوقية بعض الثقافات على ثقافات أخرى. لكن الآن، حيث الوعي المتزايد بعلاقات القوة غير المتساوية الموجودة في نقل النصوص عبر الثقافات، فإننا في موقع لإعادة التفكير بكل من تاريخ الترجمة و ممارستها المعاصرة. و الوحوشية ، التي كانت ذات يوم المحرم المطلق للمسيحيين الأوربيين، يمكن الآن أن توضع ضمن منظورها الصحيح، ووجهة نظر ممارسي الوحوشية يمكن وضعها من خلال وسط الترجمة.




[1] Maria Tymoczko “Post-Colonial Writing and Literary Translation”, pp. 19-41.
[2]  ولد الروائي الكيني نغوغاي وا ثيونغو في 5 كانون الثاني 1938 في مدينة لمورو ، و تلقى تعليمه في أوغندا و انكلترا .كتب روايته الأولى " لا تنحب يا طفل  Weep Not, Child " في 1964 و هي قصة عائلة تتورط في النضال من أجل استقلال كينيا. أما رواياته الأخرى فهي " حبة قمح  Grain of Wheat “ الصادرة في  1967 و التي ترجمها للعربية سلمان العقيدي عام 1987 و رواية " تويجات الدم  " الصادرة في 1977 و التي ترجمها للعربية سعدي يوسف عام 1982  و  رواية "ساحر الغراب Wizard of the Crow  " الصادرة في 2004. و لقد كان وعي وا ثيونغو بحجم المعاناة الأفريقية حاضراً منذ فترة مبكرة إذ أعلن في مؤتمر كنسي لدول شرقي أفريقيا عقد في آذار 1970 بنيروبي عن تخليه عن المسيحية و عن أسمه المسيحي "جيمس" و قيامه بالتخلي عن الكتابة بلغة المستعمر الإنكليزية.
[3]   راجا راو ( 8 تشرين الثاني 1908 – 8 تموز 2006) روائي و قاص هندي يكتب بالإنكليزية أعماله متجذرة في الهندوسية ، و روايته الشبه ذاتية  " الأفعى و الحبل   " الصادرة في 1960 تمثل البحث عن الصدق الروحي في أوربا و الهند. و قد أسست هذه الرواية شهرة راو بوصفه أفضل الأسلوبيين الهنود.
[4]  ماري لويز برات أستاذة اللغتين الأسبانية و البرتغالية و أدبهما بجامعة نيويورك. حصلت على البكالوريوس في اللغات و الأدب الحديث في 1970 من جامعة تورنتو، و الماجستير في علم اللغة في 1971 من جامعة الينويز ، و الدكتوراه في الأدب المقارن في 1975 من جامعة ستانفورد.قدمت برات إسهامة مهمة في كتابها الأول " نحو نظرية فعل كلامي للخطاب الأدبي" للنظرية النقدية بتبيانها أن أساس الحكاية الأدبية المكتوبة يمكن رؤيته في بنية الحكاية الشفاهية. و في هذا الكتاب تستخدم برات منجز عالم اللغة الاجتماعي وليم ليبوف لتبين أن جميع الحكايات تحوي على بنى شائعة يمكن أن توجد في الحكايات الأدبية و الشفاهية.و في نتاجها البحثي الأخير تدرس برات ما تسميه "مناطق الاتصال" . و منطقة الاتصال ، بالنسبة لبرات، هي الفضاء الذي تتواصل فيه شعوب منفصلة عن بعضها الآخر جغرافيا و تاريخيا و تؤسس فيه العلاقات التي تشتمل في العادة على العقاب و الظلم العنصري و الصراع الذي لا يمكن السيطرة عليه.
[5]  جيمس جويس ( 2 شباط 1882 – 13 كانون الثاني 1941) روائي و شاعر ايرلندي ، يعتبر من أكثر الكتاب تأثيراً في الحركة الطليعية الحداثوية في القرن العشرين . و يعرف جويس بأفضل شكل بروايته "عوليس" (1922) التي ترجمها للعربية طه محمود طه و هي علامة مميزة في الفن الروائي أكمل فيها تقنيته في تيار الوعي ، و مجموعته القصصية " أهل دبلن"  (1914)، و روايته " صورة الفنان في شبابه" (1916) و التي ترجمها ماهر البطوطي في ( 1986 ) و رواية "يقظة فنيغان" (1939).
[6]  صامويل بيكيت (13 نيسان 1906 – 22 تشرين الثاني 1989) كاتب و مسرحي و شاعر طليعي يكتب بالإنكليزية و الفرنسية . يقدم عمل بيكيت رؤية سوداوية عن الثقافة الإنسانية . و بوصفه طالب و مساعد و صديق لجيمس جويس ، يعتبر بيكيت واحداً من آخر الحداثويين و ملهماً للعديد من الكتاب الذين لحقوه ، و اعتبره مارتن اسلن واحداً من الكتاب الرئيسيين في ما أسماه مسرح العبث.حاز بيكيت على جائزة نول للآداب في عام 1969، و من أعماله المسرحية البارزة  " بانتظار غودو " (1953) و "شريط كراب الأخير" (1958) و " الأيام السعيدة" (1960).
[7]  ديريك والكوت ( 23 كانون الثاني 1930) شاعر و مسرحي و فنان تشكيلي ، منح جائزة نوبل للآداب في 1992 و جائزة تي أس اليوت عن قصيدته "طيور البلشون البيضاء"، و تشتمل أعماله على الملحمة الهوميروسية "أوميروس".
[8] André Lefevere “Composing the Other”, pp. 75-95.
[9]   فالتر بنجامين ( 15 تموز 1892 – 27 أيلول 1940) ناقد أدبي و فيلسوف و عالم اجتماعي و مترجم و مذيع و مقالاتي يهودي ألماني.  قدم عمله الذي يمزج بين عناصر المادية التاريخية و المثالية الألمانية و الصوفية اليهودية اسهامة مؤثرة للنظرية الجمالية و الماركسية الغربية . يستشهد بأعمال بنجامين كثيرا في الأوساط الأكاديمية و الأدبية و خصوصا مقالتيه "واجب المترجم" (1923) و " الفن في عصر الإنتاج الميكانيكي" (1936).
[10]  جاك دريدا (15 تموز 1930 – 8 تشرين الأول 2004) فيلسوف يهودي فرنسي ولد في الجزائر أيام الاحتلال الفرنسي. طور التقنية النقدية المعروفة بالتفكيك ، أرتبط عمله بما بعد البنيوية و الفلسفة ما بعد الحداثوية، و لكتبه المنشورة التي تبلغ أكثر من أربعين كتابا و مقالاته و المحاضرات العامة تأثير جوهري في حقل الإنسانيات، و خصوصاً النظرية الأدبية و الفلسفة القارية (الأوربية) . و من أشهر تأكيداته بخصوص منهجيته هو " ليس هناك ما هو خارج النص".
[11] Rosemary Arrojo “Interpretation as Possessive Love: Helen Cixous, Clarice Lispector and the Ambivalence of Fidelity”, pp. 141-161.
[12]   كلاريس لسبيكتر (10 تشرين الثاني 1920 – 9 تشرين الثاني 1977) كاتبة و صحفية برازيلية ، اشتهرت عالميا برواياتها و قصصها القصيرة التجديدية، ولدت في عائلة يهودية في الجزء الغربي من أوكرانيا ، و انتقلت للبرازيل و هي طفلة بسبب المآسي التي مرت بها بلادها عقب الحر العالمية الأولى. و بينما كانت تدرس الحقوق في ريو دي جانيرو ، بدأت بنشر أعمالها الصحفية الأولى و قصصها القصيرة . اشتهرت لسبيكتر و هي في الثالثة و العشرين بنشر روايتها الأولى "قريبا من القلب القاسي" التي كتبت كحوار داخلي بأسلوب و لغة اعتبرت ثورية في البرازيل.