السبت، 5 فبراير 2011

المترجمة حياة شرارة

إعداد
خالد حسين سلطان



الإهداء
الى كل عراقي وطني
له موقف حقيقي مناهض للاحتلال البغيض
لعراقنا الحبيب
أهدي جهدي المتواضع هذا

خالد حسين سلطان

المقدمة
في الأول من آب 1997 انتقلت الى جوار ربها الفقيدة د. حياة شرارة أستاذة الأدب الروسي في جامعة بغداد / كلية الآداب ( ومن ثم كلية اللغات ) في حادث انتحار مأساوي مع ابنتها الشابة مها، والذي كان صدمة شنيعة لكل من عرف الفقيدة او سمع عنها وقرأ لها وكذلك في الأوساط الأدبية والتدريسية وطلابها، وعلمت في حينها عن الوفاة من خلال اللافتة التي علقها طلابها في واجهة مجمع الكليات في باب المعظم، وأثارت تلك الحادثة الكثير من اللغط والتساؤلات ان كانت انتحار فعلا أم هنالك يد خفية للنظام الحاكم في ذلك، وعلى كل حال فالحصيلة كانت ان النظام كان وراء الانتحار سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبعد صدور رواية " إذا الأيام أغسقت " للفقيدة وبمقدمة رائعة بقلم السيدة بلقيس شرارة، أشارت السيدة بلقيس في تلك المقدمة وكتاباتها اللاحقة عن الفقيدة، ان الحادثة كانت انتحار وبدون أي تفاصيل حيث كتبت في الجزء الأخير من تلك المقدمة " .  .  . ولم تعد ترى بصيصا من النور أو الأمل. أحست أنها أمام منعطف الهاوية عندما فقدت الحياة مغزاها وهدفها، ولم يبق أمامها إلا الهرب والتخلص منها وإطفاء جذوتها. فقد وصلت الى الخطوة الأخيرة في مفترق الطريق الحاسم، الفاصل بين الحياة والموت، ووجدت راحة في إنهاء مسيرة الحياة والتخلص منها . " ومع هذا كانت بعض الكتابات التي نشرت حول الفقيدة وخصوصا بعد الاحتلال وسقوط النظام السابق تشير الى إنها كانت عملية تصفية من قبل أجهزة النظام الأمنية، فالبعض اعتبرها عملية إعدام وأدرج اسم الفقيدة وزوجها الطبيب محمد صالح سميسم ضمن قوائم الشهداء الذين أعدمهم النظام والآخر تساءل عن الذي أشعل النار في الفقيدة وابنتيها وهنالك من كتب عن استنشاقها لغاز سام. لذلك كان الأجدر بالسيدة بلقيس أن تخوض في بعض تفاصيل الحادث وخصـــــوصاً ان زينب الابنة الثانية للفقيدة قد نجت من الحادث
وبالتأكيد لديها معلومات دقيقة عن الحادث رغم قسوتها .
وعلى كل حال فان تلك النهاية المأساوية ليست بالغريبة في أوساط المبدعين والعلماء وغيرهم من ذوي النفوس البشرية السامية عند تعرضهم للاستبداد واقتناعهم بعدم قابليتهم تقديم شيء في مجال اختصاصهم ضمن الظروف المحيطة بهم، رغم تناقض تلك النهاية مع التشريعات السماوية. ويبدوا ان الفقيدة من خلال دراستها وأبحاثها في الأدب الروسي تأثرت بالنهاية المفجعة للشاعر والأديب الروسي ماياكوفسكي ( 1893 ــ 1930 ) الذي أطلق النار على قلبه وهو في ريعان شبابه وعطاءه تاركاً وصيته التي جاء فيها " الى الجميع ! أنا أموت, لا تتهموا أحداً، ودعكم من الأقاويل .   .  . " فنقشت تلك النهاية أثرها في ذاكرة حياة كورقة قد تحتاجها يوماً ما، وفعلا لجأت الى تلك الورقة لتعلن ثورتها الصامتة وتنهي  حياتها لتكون تلك النهاية صفعة في وجه الطاغية المستبد .      
تأثرت كثيراً عند قراءة تلك اللافتة المشئومة التي تعلن عن وفاة الفقيدة، وبعد الاحتلال قرأت روايتها " إذا الأيام أغسقت " وتعاطفت مع أحداثها ومعاناة الفقيدة، لذلك أخذت من عنوانها لازمة لي أكررها مع كل ضائقة أمر بها وما أكثرها في زمن الاحتلال البغيض وما رافقه من أحداث وانحرافات غير متوقعة، حتى أخذ أطفالي بسؤالي عن معنى هذا القول " إذا الأيام أغسقت " فوضحته لهم وتكلمت عن الفقيدة وزوجها وابنتيها وما حصل لهم على يد النظام السابق .    
لم التقي بالفقيدة وأنا من جيل طلابها بل كانت هي وزوجها المرحوم محمد صالح سميسم أصدقاء ورفاق لوالدي المرحوم حسين سلطان، وكان الطبيب محمد سميسم طبيب العائلة وأصدقاءها وأقاربها يقدم لهم المشورة والمساعدة في الحالات المرضية سواء في اختصاصه او غير ذلك وخصوصاً خلال فترة عمله في مستشفى الطوارئ في بغداد حيث كنت أحد مراجعيه، وفاءاً لتلك الصـــــــداقة والنبل الإنساني الذي تحمله
الفقيدة وزوجها والإهمال المقصود من المؤسسات الأكاديمية التي عملت فيها وكذلك رفاقها في فترة عملها الحزبي، عملت على جمع ما أحصل عليه من كتابات ومقالات عن الفقيدة ودورها الأدبي والسياسي على أمل نشره كملحق في احدي المجلات الأدبية أو على شكل كتاب مستقل ليكون مرجعاً متواضعاً للمهتمين وبالتأكيد انه لا يحوي إلا جزء مما كتب عن الفقيدة، ولكن هذا ما تمكنت عليه ضمن ظروف الاحتلال البغيض .
عذراً لكل من نشرت مساهمته في كتابنا هذا دون الحصول على موافقته وشفيعي في هذا الاعتذار إننا نعمل في نفس الاتجاه ألا وهو إنصاف إنسانة مبدعة ظلمت في حياتها وبعد مماتها، وخصوصاً كتابات السيدة بلقيس شرارة حيث لم أجد أروع من  السيرة التي كتبتها عن الفقيدة كمقدمة لروايتها " إذا الأيام أغسقت ". لم يصل الى العراق إلا نسخ معدودة من تلك الرواية خلال العهد المباد بالإضافة الى بعض النسخ التي تسربت للقراء بسرية وحذر تام ضمن ما يسمى بثقافة الاستنساخ الشائعة في شارع المتنبي، ومع هذا لا تتوفر تلك الرواية الآن في المكتبات ولا يمكن الحصول عليها بيسر لذلك أدرجت مقدمتها الرائعة كسيرة للفقيدة حياة شرارة وهي في الحقيقة تمثل موجزاً سياسياً وأدبياً لتاريخ العراق الحديث .
ختاماً أتمنى ان أكون وفقت في إنصاف إنسانة ومناضلة ومبدعة
 المجد والخلود للفقيدة حياة شرارة
خالد حسين سلطان
 آذار  2009
سيرة حياة الفقيدة " حياة شرارة "
بقلم : بلقيس شرارة*
مدينة النجف، مدينة غريبة لا تشبه مدن العالم. ربما لا يوجد على شاكلتها إلا مدينة (( بناريس )) في الهند، التي تعيش وتحيا من الأموات.
فالنجف مدينتان، مدينة الموتى ومدينة الأحياء، ويتلاشى الفاصل بينهما أحياناً، ويصبح متشابكاً ومتلاحماً. فمدينة الموتى لا تخلو من الأحياء القادمين من مدينة الأحياء لاستمرار طقوس الدفن. إذ تأتي اليها جنائز الموتى من كل حَدَبٍ وصوبٍ في العالم الإسلامي، وتتعالى الأصوات التي يشوبها الألم والأسى على فقدان الأقرباء والأعزاء، وتضفي أشباح الموتى عليها جواً من الهلع المكبوت والسكينة القدرية.
ومدينة الأحياء لا تخلو من جنائز الموتى التي تقام لها الشعائر في جامع الامام على ليل نهار، وتتقاطر الجنائز صفاً صفاً مرفوعة على أكتاف الأحياء في صحن الجامع بانتظار إقامة الصلاة عليها. فتماس الأحياء والموتى متواصل، حيث تمتزج صلاة الجنازة بأصوات الصبية وضجيجهم، يلعبون في زاوية صحن الجامع الواسع، وبأحاديث النسوة المتلفعات بعباءاتهن حول سماور الشاي. والجامع هو المنفذ والمتنفس الوحيد للصبية والنساء الهاربات من عزلة الدار القاتمة وأزقة المدينة الملتوية المظلمة التي لا ترى أشعة الشمس.
ومدينة الأحياء ملتفة بهالة أسطورية، فهي مطمح أنظار المسلمين من الشيعة، تعج أروقة جوامعها التاريخية بالطلبة القادمين من جنوب لبنان وإيران والهند لانتهال العلوم العربية والإسلامية، يستمعون إليها على شكل حلقات دراسية تحت إرشاد (( علمائها الدينيين )) .وبالرغم من الجو الديني المرادف لمدينة النجف ، هنالك جو آخر ازدهرت فيه نهضة ثقافية واسعة، إذ صدرت عدة صحف و مجلات كان لها دور مهم في الدعوة للإصـــــــــلاح الاجتماعي، كـ (( الهاتف ))و(( الحضارة )) و(( الغري )) و(( البيان ))، وبرز فيها كتاب وشعراء أغنوا تراث العراق الأدبي مثل محمد مهدي الجواهري وعلي الشرقي وجعفر الخليلي وسعد صالح، ومن الجالية اللبنانية ظهر حسين مروة ومحمد شرارة .
وفي هذا الجو الغريب الذي يكتنف المدينة ولدت حياة عام 1935 في حي المدينة القديم .
مّرت والدتي بمعاناة شديدة، عندما ولدت حياة بعد بنتين، وجاء أهل النجف لتعزية والدتي بولادة بنت ثالثة. كان أهل النجف يـــــــعتبرونها (( ثالثة الأثافي )) كناية عن المصائب، وانزعج والدي جداً من زيارات الناس وكلامهم، مما دعاه الى قضاء معظم وقته خارج الدار لتجنب رؤيتهم .
كانت نظرة المجتمع التقليدية للأنثى عندما ولدت حياة، نظرة غير محترمة، وغير مساوية للذكر. ولم تفتأ تلك المجتمعات تتدخل في الأمور الخاصة والشخصية للفرد كأن تدخلها حق مطلق من حقوقها. فتوالت الاقتراحات من كل جانب بتزويج والدي امرأة ثانية تلد له ولداً، وحُمّلت والدتي المسؤولية عن ولادة بنت ثالثة ولم تقع أية مسؤولية على الأب، للجهل المطبق بـ (( بايولوجية الإنجاب )) .وكتب والدنا، محمد شرارة، مقالة في (( الهاتف )) بعنوان (( سهيل ام خلاف آخر )) يدور حول هذا الموضوع، وذكرت حياة رسالة لها عن ذلك عام 1979 :
((يقول أن مريم استُقبلت بالبرود لأنها بنت رغم أنها أول طفل لدينا، أما بلقيس فلم تستقبل بالبرود رغم أنها الثانية وكان الأحرى ان يخلق ولادة طفلة ثانية مثل هذا الموقف. أما أنا فكنت هادئة صامتة في طبعي بعكس بلقيس وكما لو كنت اعرف عدم الرغبة بمجيئي، وكانوا يسموني ( ثالثة الأثافي))).
ترك والدي النجف بعد ولادة حياة بعام، والتــــــــــحق بثانوية الناصرية كمدرس للغة العربية، وشعر (( أن الحياة الجديدة مضنية في جانبها العملي والروحي، تستنزف معظم وقته، وشعر بالغربة والنفور من نظرة المعلمين السطحية ))1.
سافرنا ذلك الصيف الى لبنان. وقضينا عاماً كاملاً مع والدتي، حيث ولدت ولداً، فتعالت التغاريد ووزّعت علب الحلوى، وانهالت التهاني بالطفل الجديد على والدي من جميع أعضاء الأسرتين، آل الزين وآل شرارة، كأن والدي هو المسؤول الوحيد عن مجيء هذا المولود، واجتمع أعضاء أسرة شرارة نساءً ورجالاً، قاضين سهرتهم في البحث عن إيجاد أسم لائق للمولود الجديد، واستعانوا بالقواميس العربية، وبعد أسبوعين من البحث عن أسم يليق بمنزلة المولود الجديد، اختلفوا في تسميته : أحدهم يريد عدنان وآخر قحطان، وسرت النشوة والفرح عندما وافق الجميع على اقتراح جدي في تسميته إبراهيم، وتخلص والدي ووالدتي من التســــمية الشائنة التي لصقت بهما (( أبو البنات، وأم البنات )). ما هو شعور وردود فعل البنات الصغيرات تجاه هذا الاهتمام بالمولود الجديد وبالأخص الصغيرة حياة؟ إن أهمية الذكر وتعظيمه مشكلة اجتماعية، جابهتها المجتمعات وآمنت بها منذ ظهور الزراعة، فنشأ تفضيل الذكر على الأنثى لأنه يؤمن باستمرار اسم العائلة واستيراث الأرض، ولا زالت الأنثى تعاني من وطأة هذا الوضع .
ولكن والدي كان يؤمن بالمساواة التامة بين البنين والبنات، ولم يدع مجالاً لسيطرة عقول مؤمنة بمفاهيم قروسطية، من التدخل في توجيه أبنائه وبناته وتربيتهم .
قبل عودتنا الى العراق بأسابيع، أصيبت حياة بمرض التيفوئيد، واضطرت والدتي لتركها في لبنان مع جدتي .
برزت أمامي عيناها الواسعتان، بنظرات مملوءة بالتوسل بوالدتها، وكأنها تقول : ماما لا تتركيني وتذهـــبين بدوني. لم تكن تستطيع التعبير بالكلام، فلم تبلغ بعد العامين من العمر، عزلت في غرفة لا يقترب منها أحد إلا والدتي، والآن ستتركها في هذه الغرفة وحدها، ظلت عيناها الواسعتان الغائرتان من شدة المرض، تلاحقنا ونحن نتجه نحو السيارة .
مر عامان ولم يتذكر أحد منا حياة غير والدتي، التي كانت تغرورق عيناها بالدموع عندما تتكلم عنها. وعندما عدنا الى لبنان، لم تتعرف حياة على العائلة، ونسيت حتى والدتها، وعندما حاولت والدتي تقبيلها أسرعت وتمسكت برداء جدتي التي أصبحت لها الأم والأب والأخت .
تغيرت ملامح حياة عما تركناها منذ عامين، ببريق عينيها الواسعتين، وشعرها الطويل الكستنائي اللون، وحمرة الصحة التي كست وجنتيها، وكانت طليقة الكلام باللهجة اللبنانية .
عادت معنا بعد ان قضينا الصيف في ربوع لبنان، والتحقت بالروضة بمدينة الحلة. لم تكن تحب الذهاب الى الروضة، فقد رفضت الذهاب إليها مرات عديدة. كانت تعيد نفس الجملة : الأطفال لا يتكلمون اللهجة التي تتكلمها، وتصّر عليهم أن يتكلموا لهجتها .
وأظهرت حياة موهبة أدبية منذ نعومة أظفارها، وأحبت الشعر الحديث وحفظته عن ظهر قلب، وكان لوالدي أثر كبير في ذلك. إذ كان يتلو الشعر ويترنم به، وأصبح ذلك جزءاً من حياتنا اليومية، ورسخ في ذاكرتنا ما كان يترنم به من قصائد. وبالإضافة الى هذا كانت أحاديثه الاعتيادية معنا باللغة الفصحى مما أغنى استيعابنا للغة العربية .
نشأت حياة وترعرعت في هذا الجو الأدبي، وأظهرت موهبة خاصة عندما كانت تقارع والدي بحفظها دواوين شعر كاملة أثناء المساجلة الشعرية التي كانت تشترك بها العائلة .
عندما انتقلنا الى بغداد في منتصف الأربعينات، أصبح بيتنا منتدى وملتقى لكثير من الشعراء والأدباء والمفكرين، وكان يجمعهم في تلك اللقاءات حبهم للأدب والشعر، بالرغم من التباين والاخــتلاف في آرائهم  السياسية. واتخذت تلك اللقاءات طابعاً أسبوعياً .
كانت حياة تجلس دائماً في زاوية من غرفة الضيوف وبين يديها الصغيرتين دفتر تسجّل فيه ما تستمع اليه في تلك اللقاءات الشعرية من قصائد جديدة، ولم نكن ندري أن تلك اللقاءات كانت تمثل بداية (نشأة الشعر الحر). كان الجدل يدور حول تجديد الشعر وجعله حراً بلا قافية. كان الشعراء يقرأون آخر ما نظموه من القصائد، وكانت تلك اللقاءات الأسبوعية هي البذرة الأولى في توجيه حياة أدبياً وسياسياً .
   كان بدر شاكر السباب ولميعة عباس عمارة من المواظبين أسبوعياً على تلك اللقاءات. وشارك بتلك اللقاءات محمد مهدي الجواهري وحسين مروة ونازك الملائكة وأكرم الوتري وبلند الحيدري، ومحسن الأمين. كانت نازك تزورنا معظم الوقت بصحبة والدها صادق الملائكة وأحياناً مع أخيها نزار .
كنا نسكن حي سبع قصور، وكانت دارنا مطلة على نهر دجلة، تحيطها حديقة واسعة، بأشجار قديمة باسقة، وكان المشي على شاطئ دجلة صيفاً من وسائل اللهو والمتعة، فنذرع الشارع رواحاً ومجيئاً، بخطى وئيدة، نستمع خلالها الى الأحاديث المتنوعة الشيقة التي لا تقتصر على الأدب والشعر، وإنما تشتمل على أحداث الساعة وما كان يدور في البلد من مشاكل اجتماعية وسياسية .
وقد أثر علينا نحن البنات بصورة خاصة كل من بدر ولميعة ونازك أكثر من الآخرين، لمعرفتنا بهم عن قرب .كان بدر ثائراً على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وبالرغم من انتمائه الى عائلة ميسورة، قرر تركها عندما أصبح عضواً بالحزب الشيوعي. وتجلت تلك النزعة الثورية في بعض القصائد التي نظمها في تـلك الفترة. كان نحيل الجسد، أسمر اللون، له أذنان كبيرتان، بارزتان أكثر عن المألوف، مع أنف كبير، وعينين صغيرتين، وشفتين بارزتين، لنتوء في أسنانه. فليس هنالك أي شيئ جميل في محياه. كان ذا حـــــــس مرهف،
يتنازعه القلق الدائم، يحب ويعشق كل ما هو جميل حوله. فالطبيعة الجميلة والمرأة الحسناء، كان لهما دور كبير، وقد عانى بدر من الإحباط المتواصل من المرأة. وكثيراً ما كان يقع في غرام امرأة حالماً بتعرّف عليها، ولكم نظم القصائد بمثل هاتيك النساء، وكم ذمهن بقصائد أخرى عندما لا يجد استجابة منهن. وكان خجولاً الى درجة مفرطة .
إن معرفته وإلمامه الواسع بالأدب العربي والانكليزي، ميّزه عن شعراء عصره، الذين لا يملكون في  معظمهم هذه المعرفة، لذا جاءت صوره الشعرية منوّعة وعميقة، حية تنبض بالحياة. كان بدر مؤمناً بخلاص الإنسانية المعّذبة، وأثرت به تجربته السياسية والتزامه بالاشتراكية، لينتهي شاعراً متمرداً، حرّ التفكير، لم يتقيد بقصائده بالمفاهيم السائدة في صياغتها، وأصبح من قادة التجديد في الشعر الحديث في العالم العربي .كان يميل في تلك الفترة الى الشاعرة لميعة عباس عمارة، زميلته في دار المعلمين العالية. وقد نظم فيها عدداً من القصائد .
كان مفتوناً بلميعة ومتيماً بحبها، وما كان يقرؤه من قصائد في تلك اللقاءات، كان موجهاً لها، وكانت هي تعرف كيف تثير عواطفه حين ترمقه بنظراتها الساحرة، التي تخفي عشرات المعاني. كانت علاقة بدر بلميعة علاقة حب مفضوحة، بعيدة عن التكتم .
اما لميعة فكانت تجمع ذكاء الروح وجمال الجسد. طويلة القامة، نحيفة، ذات عينين جميلتين واسعتين سوداوين، وشعر فاحم. وبالرغم من أنها كانت ترتدي دائماً فستاناً أسود اللون، كانت تتألق نضارةً وحيويةً وشباباً. كانت نقيض بدر، فهي محدثة بارعة، ذات نكتة لاذعة. وعندما كانت تلقي قصيدة من قصائدها، فإنها تتكلم لغة الجسد، فتتغنج وتتمايل وتذوب مع الكلمات ومعانيها التي تصدر من بين شفتيها، فيرتفع صوتها تارة وينخفض تارة أخرى، فكانت تشرك كل حاسة من حواسها عند الإلقاء. جمعت بشخصيتها العذبة وأســـــــلوبها الجذاب في قراءة الشعر
سحراً كان يخيم على الحاضرين في تلك اللقاءات. كانت قصائد لميعة قصيرة ورقيقة في مضمونها، وكان الحب هو الموضوع الرئيسي لتلك القصائد .
اما نازك فكانت تختلف تماماً عن لميعة، لم تكن جميلة أو جذابة كلميعة، بل كانت قصيرة القامة، مملوءة الجسد، بسيطة المظهر، قليلة الكلام، وإن تكلمت فبصوت هادئ لا ترفعه إلا عندما تقرأ إحدى قصائدها. كان الحزن يغلب على محياها، وكانت نظرتها للحياة نظرة مأساوية، وانعكست تلك النظرة في قصائدها. ولكنها كانت واسعة الاطلاع، مرهفة الإحساس، ذات ثقافة أدبية عميقة، وهي تتقن اللغة الانكليزية والعربية واللاتينية والفرنسية .
حفظت حياة معظم شعر بدر ولميعة ونازك، وكانت تترنم بقصائدهم وهي لم تبلغ بعد سن الثانية عشرة .بالإضافة الى اللقاءات الشعرية والأدبية، ثمة لقاءات يؤمها خليط آخر من المثقفين والمفكرين اليساريين، كالشاعر كاظم السماوي وجاسم الرجب وأساتذة من مدرسة شماس ودار المعلمين الريفية .
كان عام 1948، عاماً مضطرباً، مملوءاً بالمآسي، وقد شمل الغليان معظم البلدان العربية، لخسارتهم فلسطين في حربهم مع اليهود. وكانت تلك الخسارة بعد ولادة دولة إسرائيل، بقرار من هيئة الأمم المتحدة، بمثابة كارثة على العرب، ولم يكن الفكر العربي متهيئاً لها يومذاك، وما زالت أصداؤها سارية بعد خمسين عاماً .
خرجت المظاهرات في شوارع بغداد، تطالب بسقوط الصهيونية، وشملت جميع المدارس في العاصمة، بما فيها المدارس المتوسطة والثانوية، ولكن لم يسمح للمدارس الابتدائية بالمشاركة فيها، وتألمت حياة عندما عدنا من المظاهرة المنظمة من قبل الحكومة نَقصّ عليها ما حدث، وتمنيت لو سُمح لمدرستها الابتدائية بالمشاركة أيضاً .
كان ذلك العام، عام 1948، من الأعوام الصاخبة التي مــرّت في تاريخ
العراق الحديث، فقد وُقّعت ( معاهدة بورتسموث )، من قبل السلطة، التي كان رئيس وزرائها صالح جبر، واعترضت الأحزاب المعارضة على تلك المعاهدة، واعتبرتها جائرة ومجحفة بحق العراق، وشجبتها .
انتقلت المقاومة لتلك المعاهدة الى الشارع. وبدأت المظاهرات التي تخللتها الخطابات الحماسية والقصائد الملتهبة والهتافات الرنانة، وتزايدت المقاومة يوماً بعد يوم، حتى أمرت الشرطة بفتح النار على المتظاهرين، فسقط خلالها عدد من القتلى قرب جسر ( مود ) عندما كان المتظاهرون متجهين نحو السفارة البريطانية، والتهب الوضع عندما علم أن من بين القتلى الذين سقطوا مضرجين بدمائهم جعفر الجواهري، شقيق الشاعر المشهور محمد مهدي الجواهري، فنظم في تأبينه قصيدته المشهورة التي ترددت كنشيد شعبي على فم كل عراقي ومن بينهم حياة، ومطلعها :

أتعلم أم أنت لا تعلم         بأن جراح الضحايا فمُ
تراجعت السلطة عندئذ عن إبرام المعاهدة، وسقطت حكومة صالح. وهدأ الشارع، وتحول الى لافتات يرفعها المشيّعون للضحايا الذين سقطوا برصاص السلطة .
وأطل عام 1949، وصادفت الذكرى الأولى للوثبة التي أسقطت معاهدة ( بورتسموث ) فأعلنت الأحكام العرفية، وبدأت حملة اعتقالات واسعة في العراق، لم يشهد لهل مثيلاً منذ حركة رشيد عالي الكيلاني. فحُلت الأحزاب وعطلت الصحف عن الصدور، واعتقل عدد كبير من مفكري وسياسي العراق، وكان والدي وعمي مرتضى ممن شملهم الاعتقال .
كنا نسكن في حي الكرادة الشرقية، في دارنا المطلة على نهر دجلة. عندما داهمت الشرطة دارنا ليلاً، وفتشت جميع الغرف، ونثرت الكتب وأوراق والدي، التي غطت أرض الغرفة، وصودر عدد كبير من كتبه وأوراقه، وشملت المصادرة حتى الصور التي التقطت لنا ولرفيقاتنا في المدرسة أثناء تشييع الذين سقطوا خـــــــلال المظاهرات. وانقلب عالمنا المشرق رأساً على عقب. وانطفأت جذوته وأصبح عالماً مثقلاً بالهموم، لا ندري ما يحمل في طياته من مفاجئات .
اختفى والدي وعمي مرتضى مع الكتب والأوراق التي صودرت، واعتقلا في معتقل (( أبو غريب )). كان المعتقل يزخر بالمفكرين اليساريين، من أمثال الشاعر بدر شاكر السياب والشاعر محمد مهدي الجواهري، مع رجال الأحزاب المعارضة ورؤسائها، وطلبة الكليات .
حزنا على والدي وعمي، وشعرنا بالفراغ الذي أحدثه اعتقالهما .
كانت والدتي تبعث لهما يومياً الطعام بـ (( زنبيل )) ــ وهي سلة مصنوعة من خوص النخيل ــ مغطى بمنديل أبيض، ويعاد الزنبيل بالمنديل الأبيض الذي يغطي ملابس والدي وعمي لغسلها، كانت والدتي تفتشها بحثاً عن قصاصات الورق التي تعطينا نزراً ضئيلاً عن حالتهما. وانطبعت حالة والدي وعمي في ذاكرة حـــــــياة وأبرزتها في روايتها (( وميض برق بعيد )) التي لم تنشر بعد :
((حدثتني عن فزعها عندما طرق الباب في الساعة الثانية ليلاً، وكان الجميع يغطون في نوم عميق، فاضطرت هي الى النهوض من سريرها وفتحه، متصورة أن أحد الجيران قد وقع له مكروه، وأتى يطلب مساعدتهم. غير أنها فوجئت بشرطيين يقفان أمامها ويسألناها عن أخــيها [ أحمد ] طالبين منها ان تناديه. ارتبكت ولم تعرف ماذا تفعل، وظلت جامدة في مكانها تتطلع إليهما بذهول حتى طلبا منها بصوت عال صارم أن تذهب وتستدعيه. أبقت الباب مفتوحاً ومشت وكأنها ترى كابوساً في نومها. دخلت غرفة [ أحمد ] وأيقظته بصوت مرتجف وأخبرته بوجود الشرطيين في الخارج. فزّ من فراشه في الحال وبقفزة واحدة أصبح عند خزانة الملابس وأخذ يرتدي ثيابه على عجل .   .   . أيقظت في تلك الأثناء جميع أفراد عائلتها ما عدا أمها التي استيقظت من تلقاء نفسها على أصوات الضوضاء والحركة غير الاعتيادية فيما حولها. تعالى عـــــويل أمه وأخواته وشهقاتهم، وبان الوجوم على وجوه
أخوانه. بقيت هند مع أبيها رابطة الجأش، وخرجا معاً الى الشارع، ووقفا يراقبان [ أحمد ]ٍٍٍٍٍٍٍٍٍ وهو يسير وسط الشرطيين، اللذين وضعا قيداً حديدياً في يديه، حتى توارى بعيداً مع معتقيليه وتحولوا الى أطياف تشق سكينة الليل بوقع أصوات أحذيتهم الثقيلة. كانت تلك الأصوات هي الدليل الوحيد على حقيقة وجودهم بعدما تحولت هيئاتهم الداكنة الى جزء من أثير ذلك الليل المظلم وتلاشوا في جوفه تماماً عندما انعطفوا الى جهة اليمين واختفوا من مجال الرؤية، خفتت أصوات أحذيتهم واندمجت في همهمات الليل المبهمة. بقيت هي وأبوها وحدهما في الشارع لا يصدقان ما حدث ويتصوراه جزءاً من غموض الظلام وأسراره المحيطة بهما، ثم دخلا البيت وأغلقا الباب وعّبر وجههما عن ألم أخرس عظيم )).2
 توقفت اللقاءات الأدبية الأسبوعية، وذلك لأن عدداً من الذين كانوا يلتقون في دارنا تعرضوا الى قسط من الاضطهاد. فقد أسقطت السلطة الجنسية العراقية عن حسين مروة وعائلته، كانت تلك ضربة قوية سددت لعائلتنا وشعرنا بالخسارة بإسقاط جنسية آل مروة، وكأن عضواً مهماً بُتر من جسد عائلتنا، إذ كنا عائلة واحدة، فإن غضبت العائلة على أحد أبنائها، كانت العائلة الأخرى تحتضنه .
كان الشاعر محمد مهدي الجواهري يتردد على دارنا بعد أن أطلق سراحه من المعتقل، وزارنا ذات ليلة، قرأ لنا قصيدة عن فتاة فرنسية اسمها (( أنيت )) كتبها على ورق لف السكائر الخفيف عندما كان معتقلاً في سجن أبو غريب. وللجواهري أسلوبه الخاص في قراءة الشعر، كان يعيد البيت الواحد ببطء مرتين قبل أن ينتقل الى البيت الثاني، وكانت حياة بدورها قد حفظت البيت فتعيده معه. وقد كتبت عن نفســــها تقول (( كنت أحفظ القصائد التي تلقى في الندوة بشغف وسرعة، ولذلك استطعت أن أتذكر بعض أشعار السياب التي لم تنشر، والقصائد التي غيّر عناوينها أو الحادثة والسنة التي نظمت بها )).3
أضطر والدي بعد أن خسر وظيفته، الى مشاركة أحد الأصدقاء في فتح مخزن، وكان نوع العمل شاقاً على والدي وهو غير معتاد عليه، واستغرق معظم وقته، كان مرهقاً جسدياً وفكرياً، يخرج من الصباح الباكر ولا يعود قبل العاشرة ليلاً. تغيرت أحاديثه عن الأدب والسياسة الى أحاديث غريبة عنه تماماً. كاكتشاف أسرار ترويب اللبن ونجاح تلك العملية التي تستغرق طول الليل، ليعرف في الصباح مدى نجاحها. بعد عام من العمل المتواصل المضني ترك المخزن، وخسر حتى الإكرامية التي حصل عليها بعد فصله من الوظيفة .
ولم تقتصر المعاناة على والدي وإنما شملت جميع أعضاء الأسرة بمن فيهم والدتي، التي لم تكن مقتنعة وراضية عن اتجاه والدي السياسي .
كانت والدتي جميلة الوجه، مربوعة القامة، تميل الى البدانة، بسيطة في نظرتها للأمور، متدينة، تقوم بفروض الصلاة والصوم، مستقيمة الأخلاق، مخلصة في أداء واجباتها العائلية لدرجة إنكار الذات، ربّت جميع أولادها على الصدق والتضحية وتحمل المسؤولية منذ نعومة أظافرها، ظلت تتكلم اللهجة اللبنانية، ولم تستطيع تعلم اللهجة العراقية طول حياتها. وبالرغم من الفجوة الفكرية العميقة بين والدي ووالدتي منذ زواجهما ومعارضتها للعمل السياسي الذي انخرط فيه أبي، فقد وجدت نفسها مضطرة في كثير من الأحيان لرهن مجوهراتها أو بيع قطعة أرض من الأراضي التي تملكها في لبنان، لكي تستطيع إعالة العائلة بالطريقة التي تعهدها .
أما عمي (( مرتضى )) فقد اشتغل محرراً ليلاً في احدى الصحف المحلية، ليتمم دراسته في كلية الحقوق صباحاً. كان لا يعود قبل منتصف الليل، مرهقاً منهكاً من عمله المتعب، ولم يعد ذلك العم المرح الذي يقضي جزءاً من وقته الثمين معنا بتوجيهنا والإشراف على تعليمنا وقراءة القصص لنا .
موضوعات الكتاب
الفهرس
الإهداء   ................................................................   3
صورة الفقيدة " حياة شرارة "   .......................................   5
المقدمة   ................................................................   7
سيرة حياة الفقيدة  "حياة شرارة " / بلقيس شرارة   ...............   10 
و " إذا الأيام أغسقت " فلا تنسوا " حياة شرارة "
شعر / محمود حمد   .................................................   74 
حياة شرارة سيرة حافلة بالعطاء الإبداعي والإنساني
جمال كريم   ..........................................................   77  
د.حياة شرارة في : نصوص مزدوجة في السيرة والسيرة الذاتية
نادية غازي   .........................................................   84
الغروب الأخير على شفق المدينة / شعر / فاروق سلوم   ........   93
بمناسبة مرور عشر سنوات على انتحار الكاتبة وأستاذة
الأدب الروسي في كلية اللغات ــ جامعة بغداد الدكتورة
حياة شرارة وابنتها مها / بلقيس شرارة   ...........................   97
فرادة في الإبداع وتعدّد في النوع / نبيل العطية   ................   101
من أشعل النار فيها / سميرة الوردي   ...........................   104
إذا الأيام أغسقت / قراءة معد فياض   ............................   106
إذا الأيام أغسقت وإذا الأحلام تبعثرت / تركي الحمد   ..........   114
إذا الأيام أغسقت / قراءة محمد الأحمد   .........................   120
إذا الأيام أغسقت : رواية هواء الخوف العراقي     
مراجعة للرواية / بلقيس شرارة   .................................   124
قالوا في حياة شرارة   .............................................   134
آل شرارة   .........................................................   137
الفهرس   ...........................................................   138 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق