الأحد، 23 يناير 2011

لقاء مع مترجم صدام حسين

ضياع في الترجمة
لورينزو كريمونيزي (ها آرتس)
ترجمة : كاظم العلي
كان سعدون الزبيدي المترجم الرئاسي لصدام حسين. و يقدم لنا، في لقاء خاص، تفاصيل لم تكن معروفة عن الدكتاتور المخلوع.
بغداد/ تخيلوا صدام حسين في الأيام القليلة التي سبقت اندلاع الحرب. لا يمكن لأي احد سوى تصوره محملا بمسؤوليات و ينظم القوات المسلحة و يراجع خطط الطوارئ و يعيد تدقيق المعلومات المتعلقة بالأحتياطات الإستراتيجية و طرق الإخلاء في حال قامت قوات المارينز بهجوم مباشر على قصوره الرئاسية في بغداد و تكريت.
"كلا، كلا، على الإطلاق. لقد تعب صدام حسين منذ ثلاث سنين في الأقل من الإدارة اليومية لنظامه. لم يستطع تحمل الأمر طويلا: الاجتماعات و اللجان و الرسائل و المكالمات الهاتفية. و لذلك انسحب مفوضا القيام بالمهام بشكل ثابت تقريبا إلى العناصر الأكثر إجراما للنظام".
"أتذكر على سبيل المثال في خريف العام 2000 أن وثيقة من مجلس الكنائس العالمي كانت تقترح القيام بحملة دولية لإلغاء الحصار المفروض على العراق أرسلت إليه. و كانت في الهوامش ملاحظة بخط يد طارق عزيز - و كان وقتها النائب الأول لرئيس الوزراء- و هو رجل كان يبدي دوما اهتماما عارما في الشؤون الخارجية للبلاد، توصي بأخذ الموضوع على محمل الجد و تطويره في الكنائس الكاثوليكية و الأورثودوكسية".
"ترك صدام الوثيقة على مكتبه مدفونة تحت كومة من الأوراق لثمانية عشر شهرا. و أضاف بشكل محير من بعد تعليقا يقول: تبحث بشكل معمق و تعاد للمرسل.
"كان هذا الدليل الواضح على الهذيان الأعمى لدكتاتور يسقط. لقد كان وحيدا و معزولا و بعيدا عن كل شيء، و فضل أن يغلق على نفسه في مكتبه و يكتب.
ماذا كتب؟
" روايات. أعتاد أن يمضي ساعات و ساعات منهمكا في قصص طويلة و فنتازية في التراث الشعبي العربي، و لكنه من دون شك كان يلهم من أفكار ذاتية: صور الحب العظيمة و القلاع المحاصرة و المعارك الخالدة و فوق كل هذا الأمراء المغدورين و الغادرين و المؤامرات العائلية و الملوك الذين يشعرون بالمرارة من جراء طعن أبنائهم لهم في الخلف، و كل هذا يقع في وادي الرافدين في الأزمان الآشورية و البابلية (و ليس من سر أن نقول أن صدام اعتبر نفسه نبوخذنصر زمانه)"
و هكذا فإن صورة "صدام الكاتب" يمكن أن تضاف إلى صور الطاغية التي لا تحصى و التي ظهرت على جدران العراق خلال فترة حكمه التي دامت أربع و عشرين عاما (و هذا يعني صور صدام المعماري و صدام الفلاح و صدام الذي يرتدي ملابس رجال الأعمال و صدام الطيار و الجندي و المحامي و البحار و رجل الدين الشيعي و الصياد الكردي و مئات الصور الأخرى) طبقا لما شرحه سعدون الزبيدي خلال خمسة عشر ساعة من المقابلات.
يبلغ الزبيدي من العمر خمسة و خمسين عاما و هو خريج أكسفورد و باحث شكسبيري و أستاذ للأدب الإنكليزي بجامعة بغداد و السفير السابق للعراق في اندونيسيا (للفترة ما بين 1995-2001) و كان المترجم الشخصي للرئيس قبل و بعد مدة عمله الدبلوماسي بالإضافة إلى كونه منقحا لكتابات صدام.
يقول الزبيدي و هو يخرج من محفظة أوراقه واحدة من روايتين كان ينقحهما في الأسابيع التي سبقت اندلاع الحرب بقليل في العشرين من آذار "أصبح صدام كاتبا كثير الإنتاج، و لو من نوعية دنيا. و أصبح تنقيح أعماله في الوقت الأخير وظيفة بوقت كامل".
أستطاع الناشر الرئاسي، و هي دار الحرية للطباعة، أن ينهي طباعة هذا الكتاب بساعات قليلة قبل أن ينتهي الصراع في العاصمة في العاشر من نيسان. و الكتاب يقع في أكثر من ثلاثمائة صفحة بغلاف صقيل يصور برجين ملتهبين يحيط بهما شيطان و هناك امرأة شابة ترتدي حجابا و محارب يلوح بسيفه المزين برموز إسلامية مهددا.
و لا يظهر اسم المؤلف على الرواية، فبدلا من ذلك أمر صدام كالعادة بطباعة العبارة نفسها على كتبه و هي "رواية لكاتبها". و يشير عنوان الرواية "اخرج منها يا ملعون" إلى مستقبل العراق القادم.
يقول الزبيدي: " تتكلم الرواية عن قصة غزو البلاد خلال حكم الملك إبراهيم و ذلك قبل خمسة عشر قرنا من ولادة المسيح.  توقع صدام بوضوح الهجوم الأمريكي و أراد نوعا ما أن يتنبأ به في روايته. و اعتقد  انه بطرق عديدة تمناه تقريبا . ففي أعمق كيانه أراد تغييرا في حياته.
" كان يقول لمدة طويلة أن العيشة الرغيدة في القصور الرئاسية قد أفسدت قيادة حزب البعث و معها عائلته. لقد رأى مكائد و مؤامرات في كل مكان. و كان يخشى بشكل خاص ابنه الأكبر عدي. و ربما أراد أن يتخلص منه للأبد.
"سمعت مرات عديدة إشاعات في القصر مفادها انه أعطى أيضا مباركته لمحاولة قتل ابنه في 1996. لكن الكلام عن ذلك كان ممنوعا خصوصا في ضوء الذهنية القبلية التي كانت نافدة دوما في منظور صدام للعالم. لقد جرح عدي بشكل جدي و أصبح نتيجة لذلك أكثر قسوة وفسادا و نزوة من السابق لكن أقل خطورة سياسيا أيضا.
"و في روايته الأخيرة يجسد حزقيال شخصية الأبن الخؤون، و حزقيال اسم مأخوذ من التراث اليهودي المحلي. و هذه ليست مصادفة، فقد استخدم صدام هذا الاسم لثلاث شخصيات سلبية في كتبه الخمسة.
"شعر صدام بالخيانة من إسرائيل بعد قصفها لمفاعل تموز الذري في حزيران 1981. و اعتاد أن يقول "قمت بشن الحرب على إيران، و هي خطرة على الشرق الأوسط، و هم يكافئونني بالطعن من الخلف؟"
يقول الزبيدي "و لذلك فإن حزقيال يتحالف سرا مع الغزاة، إلا أن إبراهيم يجده و يقتله و يهرب من بعد إلى الصحراء لينظم حرب عصابات مع القبائل البدوية التي بقت مخلصة للملك.
"الحبكة بسيطة، إلا إنها تغلف فكرة صدام عن اليوتوبيا: عودة إلى الكفاح المسلح، إلى الحياة الإسبارطية،  و في حالة الهروب. لقد تاق صدام إلى أيام شبابه الذهبية عندما كان ملاحقا بعد الانقلاب الفاشل في 1958. و غالبا ما تكلم عن ذلك بحنين. لقد أصابه الحنين للعودة إلى حالة أصيلة من النقاء غير محتملة. و ربما يكون الآن، هذا إن كنت عرفته بشكل جيد، سعيدا في العيش مختبئا مع مجموعة صغيرة من أتباعه المخلصين يديمون أنفسهم باللبن و التمر في مكان ما بين القصب في ضفاف دجلة."
أنسنة صدام
يملك الزبيدي بالتأكيد سببا وجيها للإصرار على النقد العلني لنظام كان يشكل جزءا منه حتى النهاية. و من ناحية أخرى فإنه على أية حال يحاول أنسنة صورة صدام.
"إنها المرة الأولى التي أتحدث بها منذ نهاية الحرب. أنا خائف. العراق كان و سيبقى جمهورية رعب. و وضعي الحالي صعب. فقد كنت شخصية عامة حيث يتذكر الجميع ظهوري على شاشة التلفاز في نهاية فبراير عندما كنت مترجما لمقابلة صدام مع مراسل السي بي أس دان راذر.
"فأنا بالنسبة للعديد من العراقيين واحدا من القلة الذين كانوا يحظون بامتيازات النظام الدكتاتوري السابق، رجل يستحق الإدانة.   أنهم لا يعرفون بان الأجهزة الأمنية لم تكن تنظر إلي باستحسان. كان يمكن أن أقتل. أما بالنسبة للأميركيين، و بالرغم من إنهم يستغلون الآن خدماتي المدفوعة، فإنني أبقى في نظرهم عدوا محتملا"، يبين الزبيدي ذلك بنبرة انزعاج بعد أن عومل بشكل سيء قبل قليل عند نقطة تفتيش حين ميزه مترجم عراقي على انه "مجرم فار".
غير أن السفير المثقف لا يهرب إلى أي مكان. بدلا عن ذلك، فإنه يحاول أن يتأقلم. يقول انه مفلس. و يقول" لم استلم راتبي منذ فبراير" آملا أن يجد عملا في الأمم المتحدة أو مع أي وكالة دولية.
ويمكن أخذ روايته بشيء من الصدق. فهي تعكس كل الغوامض الراهنة لذوي القدرات الفكرية الذين خدموا البعث، و الذين يحاولون الآن أن يجدوا مكانهم في النظام الجديد الذي يبنيه الأمريكان. و هو لا يريد أن يتبرأ   من ماضيه، و مع ذلك فإن مستقبله مهدد. و من هنا تأتي محاولة تقديم صورة أكثر رقة لصدام، صدام الضحية لنظام بناه بقسوة كبيرة و الذي لم تعد له قرب النهاية أي سيطرة تامة عليه. إلا إن الزبيدي يعطينا معلومات داخلية من قصر بغداد غير منشورة من قبل و رواية للحقائق لابد أن يأخذ بها التاريخ يوما ما.
إن أكثر رواية ذاتية لصدام هي روايته "زبيبة و الملك" و التي هي بعنوان و حبكة شبيهة بألف ليلة و ليلة.
يقول الزبيدي: "لقد أصبح صدام في الثالثة و الستين من عمره بحلول العام 2000. تلك هي الفترة التي بدأ فيها صدام يتحرر من السلطة. فالحاكم المطلق والمحبط و المصاب بأوهام العظمة و الذي يشعر بمرارة الحصار و ربما بتقدم العمر يقع في حب أيمان ذات الأربع و عشرين ربيعا و ابنة عبد التواب الملا حويش أحد مستشاريه و الذي يعين بناء على موافقته على الزواج وزيرا للصناعات العسكرية. أيمان، زوجته الرابعة، هي التي منحته الإلهام و الحيوية و ساندته لحمل القلم و الورقة.
يقص الكتاب الواقع في 180 صفحة حكاية ملك مطلق متورط في حرب قاسية ضد الغزاة الذي يستطيع بفضل حبه  لشابة متزوجة أن يسيطر و يهزم العدو . علاوة على ذلك فإن زبيبة تطلق زوجها الأول (كما يحصل واقعيا في حالة أيمان) و التي لكونها تنحدر من عائلة فقيرة تستطيع إرجاع الملك لجذوره و لشعبه بل و لإيمانه بالله.
نصوص مستغلقة على الفهم
إن كتابات صدام بسيطة و مليئة باللهجة القروية و الأخطاء النحوية الجديرة بإنسان ذاتي التعليم، غير انه كان يكتب بشكل متواصل: ففي العام 2001 أنتج روايته الموسومة "القلعة الحصينة" ب 600 صفحة، و استمر مباشرة في روايته "رجال و مدينة" ب 320 صفحة.
"غالبا ما يكون النص مستغلقا على الفهم، و لابد من إعادة كتابته و توضيحه. ليس من الصحيح، على أية حال، القول بأن سكرتيره قام بكتابة النصوص كما تم التلميح بذلك. لقد رأيت جميع المخطوطات الأصلية، و كانت مكتوبة بخط يد صدام المنظم بشكل نموذجي. و كان عندما يتعثر بكلمة جديدة، و خصوصا عندما تكون معقدة، فإنه يصبح مفتونا بها و يستعملها مرات و مرات، بشكل غير مناسب دائما على التقريب".
غير إن قصة الزبيدي تذهب ابعد من ادعاءات صدام، ففي السنة الأخيرة من عمر الدكتاتورية أصبح مكتب المترجم ضمن دائرة طارق عزيز.
يستدعي الزبيدي ذاكرته " كنت أرى،  أسبوعا بعد أسبوع، مخاوفه بحتمية الصراع و بهزيمتنا المؤكدة تتنامى".
يكرس الزبيدي بشكل محتوم اهتماما خاصا بطارق عزيز الذي يصبح في النهاية معلمه الخاص و الذي يصبح وثيق الصلة به سواء خلال فترة عمله وزيرا للخارجية أو خلال أخطر الأوقات عندما "شن ولدا صدام عدي و قصي و الأجهزة الأمنية و العشيرة التكريتية القوية بشكل كبير حربا بلا رحمة ضده"، هذا يعني خلال الصراع التلاحمي على القيادة و التي يعتبر الزبيدي نفسه ضحية لها.
" كانت مقاليد السلطة الحقيقية في الفترة الأخيرة بيد ناجي ألحديثي وزير الخارجية منذ 2001 و سكرتير صدام الشخصي عبد حمود و مدير جهاز المخابرات الواسع النفوذ طاهر جليل الحبوش و بالطبع كلا من قصي و نائبا الرئيس عزة إبراهيم و طه ياسين رمضان. و استولوا على الدوائر العسكرية المرتبطة بالمخابرات على حساب أشخاص مثل طارق عزيز الذين ظلوا موظفين مدنيين بالرغم من كونه واحدا من الآباء المؤسسين للبعث في فترة الستينيات.
" كان طارق مسيحيا أيضا و أكثر أهمية من ذلك انه لم يكن من أفراد عشيرة صدام، و كان هذا كافيا لأن يجعل منه موضع شك. كان صدام يحتاج إليه لأنه كان الشخص الوحيد الذي يعرف طريقة الحديث مع الغرب و لكن جميع الآخرين كرهوه و خشوه كأفعى بين الحشائش".
"و الدليل ان زيادا الابن الأكبر لطارق عزيز زج في السجن لسبع و أربعين يوما بعد اتهامه بالفساد. لقد كانت هذه رسالة لا لبس فيها من الدوائر العسكرية: أحباؤك رهائن لدينا. لا تتجرأ على خداعنا و تحاول الفرار إلى الغرب. سنذبح عائلتك بأكملها و خصوصا ابنيك.
"بقى هذا التهديد نافدا إلى بداية الحرب. فقد رأيت في العاشر م آذار رسالة على طاولة طارق عزيز كان يكتبها إلى (السكرتير العام للأمم المتحدة) كوفي أنان يحاول فيها مفاوضة اتفاقية يتوقف فيها صدام عن مهامه مقابل تأجيل الهجوم الأمريكي.
"و لم اعرف إن كانت الرسالة عرضت على مكتب الرئيس. اعتقد انه كان خائفا لدرجة تمنعه من القيام بذلك. إلا أنني، على أية حال، كنت اعرف بالتأكيد ان التهديد الفظيع بقتل عائلته ظل مستمرا. سلم طارق عزيز نفسه للأمريكيين في الرابع و العشرين من نيسان لكن ليس قبل تأمين ممر آمن لزوجته و ابنيه و بنتيه في عمان. و أعتقد انه سيشعر الآن بالحرية للتعاون".
لا بد من ملاحظة ان الزبيدي يمضي بعيدا في تأكيد ان طارق عزيز كان على الدوام و يبقى عقائديا بعثيا مناصرا للوحدة العربية "لم يكن يتحمل الجوانب الوحشية للدكتاتورية، و كان يخشى من طرق عدي الفاسدة و القاسية. لقد أحس انه كان ملاحقا من المخابرات و مع ذلك بقى مناهضا صامدا ضد الأمريكان. كان يعتقد ان العرب يجب ان يلتحقوا بالأوربيين و يشكموا القوة المفرطة التي كانت تستجمعها الولايات المتحدة".
نظرية "الأقطاب السبعة"
كان الزبيدي يخدم بوظيفة المترجم الشخصي للرئيس للأعوام من 1987 و إلى 1995 حتى في الاجتماعات الأكثر سرية (سيعود لهذه الوظيفة فيما بعد نهاية مدة عمله سفيرا بجاكارتا، أي ما بين عامي 2002 و 2003)، و حضر الاجتماعات الأكثر حساسية بخصوص حرب الخليج. و كان إلى جانب صدام عندما كان الأخير يستقبل الوفود العالمية التي أتت إلى بغداد لمحاولة إطلاق الرهائن الأجانب,  و لكن الزبيدي يستذكر حوادث مثيرة وقعت قبل أن يحدث كل هذا.
"في شهر مايس من العام 1987 ضرب صاروخ عراقي بالصدفة الفرقاطة الأمريكية ستارك مسببا موت سبعة و ثلاثين بحارا. طلب إلي ان أترجم الاجتماعات ما بين صدام و رجارد ميرفي مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشرق الأوسط. أذكر دهشتي عندما علمت انه كان في ذلك الوقت تبادل واسع للمعلومات الأستخبارية بين واشنطن و بغداد خلال الحرب ضد إيران.
"صاغ صدام بعد نهاية الحرب الباردة فرضيته عن "الأقطاب السبعة" و التي سيحكم العالم طبقا لها لا من الولايات المتحدة وروسيا و الصين فحسب بل و من الهند و اليابان و فرنسا أيضا بوصفها قائدة الدول الأوربية. أما بشأن العالم العربي، فمن سوى العراق سيكون المرشد؟
"لم يستطع صدام تحمل البريطانيين، فهو لم يسامحهم أبدا على ماضيهم الاستعماري في العراق. و كان يكره على وجه الخصوص مارغريت تاتشر. و ما زلت مقتنعا أن لا شيء آخر دفع بصدام لإعطاء الضوء الأخضر لإعدام بازوفت في الخامس عشر من آذار 1990  سوى النبرات المتغطرسة التي حملتها الرسالة التي أرسلتها لصدام رئيسة الوزراء الأسبق طالبة فيها الإفراج السريع عن فرزاد بازوفت الصحفي البريطاني الإيراني الأصل الذي اتهم بالتجسس.
من ناحية أخرى، كان لصدام ميل بالنسبة لفرنسا. "لقد أوهم نفسه انه كان يعرف الساسة الباريسية جيدا، لأنه ببساطة كان هناك في زيارة رسمية و لأنهم فرشوا له السجادة الحمراء. في الحقيقة أنه لم يفهم شيئا. لم يفهم أن فرنسا كانت قبل كل شيء مهتمة ببيع الأسلحة. الحقيقة ان الأشياء لم تكن وردية مع قصر الأليزيه تماما أيضا. فعندما اتصل جاك شيراك بصدام شخصيا في 1988 طالبا منه إطلاق عددا معينا من العناصر الإيرانية الموجودة في السجون العراقية لم يبال صدام بذلك تماما".
عاد غزو الكويت ليلة الثاني من آب 1990 بالزبيدي إلى مركز النشاط. فقد كان هذا التاريخ نقطة تحول في تاريخ العراق و التي مهدت الطريق لحربين و الإفضاء إلى سقوط الدكتاتورية في نيسان الماضي.
" كنت حاضرا في الاجتماعات الثلاثة التي دارت بين صدام و سفيرة الولايات المتحدة ابريل غلا سبي خلال فترة عملها ببغداد لثلاث سنوات. أستطيع ان أؤكد ان الأمريكيين كانوا في الحقيقة قد اخطروا بنية الهجوم على الكويت، و أنهم استجابوا بموافقة ضمنية. فضلا عن ذلك فإن وزارة الخارجية بحدود منتصف تموز أرسلت برقية مع اعتذارات شخصية للرئيس بعد أن احتج الأخير على برامج معينة أذيعت في صوت أمريكا تنتقد دكتاتورية البعث.
"دعيت في الخامس و العشرين من تموز للالتحاق بالاجتماع الأخير بين غلاسبي و صدام. كنت صديقا مقربا من رجلها الثاني بالسفارة و هو جوزف ولسن الذي التقى بدوره بصدام في السابع من آب قبل أن يغادر العراق نهائيا. أتذكر هذا لأن عيد ميلادي صادف فيه.كان جوزف مستعربا ممتازا ، و يتكلم لغتنا بشكل صحيح. و كان مثل غلاسبي عارفا جيدا بالموقف.
"و بصرف النظر عن كل شيء، وصلت غلاسبي للاجتماع منقطعة الأنفاس. و لقد أهينت لأن رجال الأمن طلبوا أخذ حقيبة يدها. عنفتني قائلة:"ماذا حصل للحصانة الدبلوماسية؟" و انزعجت من ثم لأنها أخبرت أنها لا يمكن ان تظهر مداس حذائها أو تضع رجلا على رجل بحضور الرئيس.
"إلا إنها كانت تحمل أخبارا طيبة لنا، و كانت رسالة لصدام من الرئيس بوش الأب. قالت لنا بالإنكليزية: "ليس من سياسة الولايات المتحدة التدخل في الشؤون العربية الداخلية".
"لابد ان أعترف، على أية حال، ان أمرا واحدا حيرني من ذلك الحين: إذا كنا قد أعطينا الضوء الأخضر للهجوم، كيف إن غلاسبي، غير المتزوجة و التي كانت تعيش في بغداد برفقة أمها المريضة و المتقدمة بالسن، لم تغير خططها للذهاب في إجازة في السادس و العشرين من تموز؟ أنا مقتنع أنها فهمت في  ذلك اليوم  خططنا لإرسال فرقا مدرعة باتجاه مدينة الكويت. أذن كيف ذهبت في إجازة بعد 24 ساعة؟
كارثة الفاتيكان
ساعد الزبيدي في السنوات اللاحقة طارق عزيز في جهوده الدبلوماسية المتعلقة بالفاتيكان. أصبح العراق في ذلك الحين دولة منبوذة، موضوعا على القائمة السوداء و سكانه يزدادون فقرا. كان الهدف الأول هو التصدي للعزلة و العمل على استئناف بيع النفط في السوق الحرة و محاولة تقويض شرعية الحصار و، في قاعات القصور الرئاسية ببغداد، أقناع صدام للاهتمام بصورة اكبر بالشؤون الخارجية في ضوء حقيقة انه و بعد اتخاذه قرارا في العام 1986 امتنع عن مقابلة أي ممثلين دبلوماسيين أجانب مفوضين بالعراق إلا في الحالات غير العادية.
استطاع طارق عزيز و هو العضو المسيحي الوحيد بالحكومة من إقناع سكرتير دولة الفاتيكان الكاردينال اشيل سلفستريني بالقدوم إلى بغداد. و يستذكر الزبيدي قائلا:" إلا ان اجتماعه بصدام انقلب إلى فرصة ضائعة أخرى. ان سلفستريني دبلوماسي ممتاز حاول ان يشرح للرئيس انه لابد ان يقبل الظروف التي فرضتها الأمم المتحدة على الفور و ان يتعاون مع المفتشين الذين تم إرسالهم لاستقصاء ترسانة العراق من الأسلحة غير التقليدية.
" و تحدث أيضا عن الانفتاح على إسرائيل: "أنت ترى ان لنا مع إسرائيل اختلافات تاريخية قديمة و أسباب عديدة للخلاف معها كالقدس و الأماكن المقدسة و الطريقة التي يعاملون المجتمعات المسيحية بها. مع ذلك فإننا نؤسس علاقات دبلوماسية كاملة معهم. ليس هناك سبيل إذا ما أردنا سلاما في الشرق الأوسط".
"إلا ان تفسير صدام لمجمل الأمر ان الدبلوماسي القادم من حاضرة الفاتيكان قد جاء ليقوم بدور الوسيط أو أسوأ. و في عقدة عظمته شك صدام بأن الرجل كان عميلا أرسلته إسرائيل. كان منزعجا للغاية و مهانا و عدوانيا من دون ضرورة.
"قدت سلفستريني فيما بعد عائدا به إلى غرفته بفندق الرشيد. لم يخف خيبته و قال لي:" رئيسكم مخطأ. انه مخطأ تماما عن العالم. لا بد أن يتغير و إلا سيكون سببا لمآسي فضيعة لنفسه و لبلاده. ثم نظر في عيني مباشرة و كان قلقا و متشائما و قال:" يا صديقي الشاب، برئيس كهذا تكون أنت و عائلتك في خطر حقيقي".
مع ذلك فقد جاءت الفرصة الضائعة التي لا يضاهيها شيء في العام 2000 عندما رفض العراق طلبا للبابا للبدء باحتفالات الألفية الثانية بزيارة إلى أور التي تعتبر محل ولادة إبراهيم.
يقول الزبيدي:" كنت حينها سفيرا في اندونيسيا، و طلب إلي ان القي الخطاب الافتتاحي لمؤتمر عن الحوار بين الأديان شارك به كوفي أنان.
" تقرب مني الأمين العام للأمم المتحدة بعد إلقائي الخطاب بمبادرة منه و قال "أنتم العراقيون لا أفهمكم. أنا لا أفهمكم تماما !! هل أنتم مجانين؟ كان يمكن ان تكون زيارة البابا لكم هدية على طبق من الفضة، شرعنة دولية ذات أهمية كبرى و فرصة لشجب الحصار و ضربة قاتلة للعزلة التي تفرضها عليكم واشنطن و لندن. و كيف تردون ؟ تردونهم بصفعة على الخد؟
" بوضوح، كان محقا 100%. ناقشت الأمر مع طارق عزيز الذي أطلق تنهدة كبيرة من اليأس و قال من بعد" أكتب عن الموضوع. اكتب تقريرا لطيفا مفصلا لمكتب الرئيس و لوزير الخارجية، و اقتبس أنان كلمة كلمة".
" استلمت بعد أسابيع إجابة مباشرة من ناجي صبري وزير الخارجية مفادها:"هل أنت تبحث عن المشاكل؟ لا تتدخل فيما لا يعنيك".
" استدعيت بعد ذلك من جاكرتا و عوقبت و سحب مني جوازي سفري و حققت معي المخابرات التي كانت لزمن طويل ترى في دليلا لإدانة طارق عزيز.
" لكن هكذا كانت تجري الأمور خلال الأشهر الأخيرة. الأصدقاء الوحيدين الذين بقوا لنا هم أهل عائلة (السياسي النمساوي اليميني) يورغ هيدر. ففي العام 2002 زارنا ليس أقل من ثلاث مرات. يقول الناس ان الدوائر في اليمين المتطرف النمساوي تستلم أموالا طائلة من العراق، حوالي عشرات الملايين من الدولارات.
" ربما وجد ناجي صبري لنفسه، و هو صديق مقرب من هيدر، ملاذا هناك بعد الحرب. لقد خسرنا البابا و كسبنا هيدر. يا لها من صفقة! كان واضحا أننا سنخسر الحرب، و كانت الفئران تعدو مسرعة للاختباء قبل أن تطلق الرصاصة الأولى".

تنويه: الموضوع مترجم من الموقع:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق